صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4431 | الجمعة 24 أكتوبر 2014م الموافق 19 رمضان 1445هـ

الشعر... الموسيقى... الحواس

الكاتب: جعفر الجمري - jaffar.aljamri@alwasatnews.com

كتب أدونيس في باب «تموُّجات» كتابه «النظام والكلام»: «شعرياً، لا جدوى في الكلمات إلا إذا (غَنَّتْ) أو (عَزَفتْ). دون ذلك، لا تكون إلا حصىً، أو كُتلاً صمَّاء. ذلك أن الكلمات حين تتكلَّم شعراً، وفي الشعر، لا تتكلَّم بحروفها، بل بموسيقاها».

بين الشعر والغناء ذلك الخيط الرفيع الذي لا يتضح بحاسة الأذن وحدها؛ بل بتضافرالحواس جميعها. الشعر الذي لا يتسرَّب منه ولو نغَم في وحدته... في عزلته، من الصعب أن تألفه الحواس، ومن الصعب أن يحدد المشترك فيه، اللعب بالكلمات.

ليس الغناء في السائد والمعهود مما يهتك ستْر تلك الحواس، ذلك الشبيه بنهيق في برِّية. أوركسترا تديرها مجموعة من الأنعام. يمكن للنهيق أن يشكّل أوكسترا، ولكنها من دون شك ستولّد إغراء لدى كل منا كي يتخلص ويتنازل عمّا تبقى لديه من حواس! لن تكون في ذلك الواقع شبه المفروض حواساً، ستكون فائضاً، ولن تختلف كثيراً عن الزائدة الدودية التي سيأتي يوماً ما للتخلص منها إنقاذاً لبقية الجسد والروح التي تسكنه.

بين الموسيقى والشعر تلك العلاقة الشبيهة بتكوّن العناصر، اختفاء جزء مما يشكّلها يجعل منها عنصراً ناقصاً؛ بل هي أبعد من أن تكون عنصراً.

علاقة تكاملية، لا تعني بالضرورة أيضاً؛ كي لا يحدث التباس، أن تكون الموسيقى الملازمة للشعر، باستجداء الإيقاع، وذلك الطلب الذليل الذي يسطّح وظيفة الحواس في تلقيها للظاهر من إيقاع المفردة/ الكلام. مراكز الحواس تُرى، ولا يعني ذلك أن يكون كل استقبال لها هو في محيط الرؤية المباشرة؛ بحيث يكون عدماً ولا دليل على وجوده بانعدام تلك المباشرة.

وفي الغناء أمر آخر. غناء الكلمات... عزفها. تلك القدرة الساحرة والمحرّضة على التغيير. تغيير المزاج... الوقت... والنظر ساعة تحضر.

وكما أن الكلمات في جانب منها أدوات سفك دم وإزهاق أرواح، وتحطيم أنفس ثمة كلمات تملك القدرة على الصياغات المذهلة بتحوّلها إلى أدوات إحياء، وأدوات توليد. لن يتحقق ذلك بالموت الذي تطلع به علينا بعض الكلمات في حزمة خادعة تُقدّم إلينا باعتبارها شعراً. بالحياة والاختلاف الذي يمكن لها أن تحققه، ولا تُلزم به أحداً، لكنه لن يكون من السهل النجاة من إغرائها وقدرتها على خلق وإيجاد مثل ذلك الاختلاف في داخل كل منا، ولن يحدث ذلك بيباس الكلمات تلك، بل بطراوتها وطواعيتها واكتنازها بالغناء والعزف.

وللمرة الثانية، لن يتحقق ذلك ما لم تكن اللغة هي العنوان العريض لحرية الشاعر، وربما هو ذلك ما ذهب إليه أدونيس ذات كتابة «اللغة هي أعظم وأغلى ما يملكه المبدع. فإذا سلبتْ منه القدرة على ممارسة حقه في هذا الملْك، بحرية كاملة، فكأنما سُلب وجوده، وسُلبت اللغة حقها في الوجود الثقافي الخلّاق».

كأن اللغة تلك في درجاتها الخلّاقة هي التي تصنع الفارق بين الكلام العادي وبين الشعر مكلّلاً بالغناء والعزْف. غناء لا يلتمس اللهو الفارغ بقدر التماسه للهو تحتاجه الحياة كي تُكمل مهمتها وإنجازها الذي لا ينتهي في إيقاع متواصل، هو على تماس مع إيقاع الشعر واللغة الولّادة الذكية اللمّاحة. إيقاع وغناء يكملان الحياة في محصّلة فهمنا.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/930997.html