العدد: 2471 | الخميس 11 يونيو 2009م الموافق 17 جمادى الآخرة 1430هـ

الغش في الصغر كالنقش في الحجر

لا يخطر على بال أحد عندما يرى التاجر يغش، وصاحب الأمانة يخون، إلا أن يوصمه بقلة التربية، وانعدام الأخلاق، ويكيل للتاجر صفات الجشع، وحبه للربح السريع، والغنى العاجل، والثراء عبر جيوب الفقراء، بأقل جهد، وأكبر مردود. ويظنون بمن أوكلت إليه الأمانة فخانها، أو تهاون في تأديتها، بفقده الضمير الحي، واهتراء في الدين، ونضوب في الحياء، وأنه لم يُنشأ من صغره على أهمية الأمانة، وعظم مسئوليتها، ولم يعرف قدرها، ويجزمون أنه وضع في غير مكانه وأن الأمر أوكل إلى غير أهله.

وحينما يرون الموظف يقصر في أداء عمله، ويتهرب من البقاء فيه، وإنهاء الأعمال الموكلة إليه، ويتحايل للبقاء في وظيفته، دون أن يقوم بعمله المنشود، ودون إنجاز معاملات المراجعين، وربما قدم أعماله الخاصة وفي وقت دوامه على أعمال الناس التي وجد من أجلهم، وقد يخرج من عمله إلى حاجاته الخاصة دون ضرورة ملحة، يتهمونه بالتقصير، وانعدام (الضمير)، وعندما يرى الناس الطبيب يخون مهنته، ويفشي أسرار مرضاه، متناسيا أخلاقيات عمله وتخصصه، يصابون باشمئزاز منه، و يرجعون تلك الأمور إلى أساس في تكوينه، وانحلال في شخصه، وعدم مراقبته «لضميره» وربما يرجعون ذلك كله إلى طبيعة المجتمع الذي يموج باضطرابات عجيبة، وتناقضات مثيرة، وقد يكون ذلك جزءا من المشكلة التي يعشها المجتمع (كل الناس يصنعون ذلك).

مع هذه الاضطرابات الخطيرة والتي اكتظ بها المجتمع اليوم، وبقولهم مثاليات يعملون بضدها، هناك أمر يجدر الإشارة إليه، وأثر ينبغي ألا يغفل في هذا الجانب، وخصوصا عند الحديث عن مثل هذه التجاوزات الخطيرة، في التعامل مع الآخرين، فكل ما مضى وأنواع كثيرة أخرى من أنواع الغش.

الغش الذي استمرأه الكثيرون، واعتادوا عليه، وظنوه جزءا من الحياة لا يتجزأ، وربما اعتبروا ذلك من الذكاء والدهاء، وخصوصا أيام الامتحانات، فمنعه والتشديد عليه يرسخ المبادئ، ويرسم القيم، ويغرس مفهوم الأمانة عند الطلاب، وذاك الغش الذي رأيناه من التاجر والخيانة من المسئول والطبيب وغيرهم هو أثر لما اعتاد عليه أيام دراسته.

التعامل مع الغش في الامتحانات ضعيف، على رغم الخطر الذي يشكله على المجتمع، فالطالب عندما يرى زميله يغش و ينجح دون الحاجة إلى اجتهاد وجد وسهر، يعطيه إيحاء بأن ذلك أمر مباح، إن لم يكن مباح شرعا فهو مباح عرفا، فيحذو حذو زميله، وينتهج طريقه، ولا يتعب نفسه، والطالب الذي يغش، إذا رأى سهولة الإجراءات، وعدم صرامتها، وإنما هي أنظمة على الورق، لا تطبق في حق من يتلبس بهذه الجريمة، فإنه يعيد الكرة، ويواصل التفنن فيها، ولا يلقي لهذه الأنظمة وزنا ولا قيمة. والمدرسة عندما تتخاذل عن اتباع الإجراءات الرسمية، فإنها تشعر الطالب أيضا بصحة ما يقوم به، أو ربما تنظر إليه بعين الشفقة والرحمة، والمعلم إذا رأى هذه الإجراءات المتهالكة، فإنه يغض الطرف عن هذه الحالات المتكررة، والتي لا تكاد تخلو منها مدرسة، بل ولا يخلو منها صف ولا مادة من المواد، فالمدرسة هنا قد غشت، والمعلم مارس أيضا نوعا من أنواع الغش.

ومن هنا غش التاجر، وكذب الموظف، وضُيعت الأمانة، وحل الضياع، وتمزق الصدق، وفشى الفساد، وظهر الاحتيال والنصب، وأصيبت الأخلاق في مقتل، فقد ترعرعت هذه الخصلة مع الموظف، ونشأت مع التاجر، وكبرت مع المسئول، فمن سينتزعها منه الآن؟!

وأنت ترى الامتعاض في وجوه الناس من هذه الأشكال، والازدراء في أعينهم، وربما رأيتهم يصفونهم بأقبح الأوصاف، ويوصمونهم بأسوأ النعوت، وينفرون منهم وينفِّرون عنهم، ويحذرون غيرهم من التعامل معهم، قد ترى بعض هؤلاء الساخطين يعمل عملهم إذا خلا في متجره، أو ذهب إلى وظيفته، ويمارس نوعا من أنواع الغش الاجتماعي.

أولئك الطلاب الذين يغشون اليوم في دراستهم، ولم ينههم أباؤهم، ولم تأخذ على أيدهم مدارسهم، هم الذين يمارسون الغش علينا في المستقبل وعلى أبنائنا، فالذين يغشون اليوم في أعمالهم هم الذين غشوا في مدارسهم بالأمس.

كي نأمن على أعمالنا في المستقبل، يجب ـ وأنت عزيزي القارئ تدرك جيدا أن هذا العمل مشين في كل حين ـ أن نحاربه في نفوس الطلاب وننفرهم منه، ونصدهم عنه، وإن غضبوا اليوم، إلا أن الأمانة سترسخ في أذهانهم، ويعلمون إذا كبروا لماذا كانوا يمنعون من الغش، ويدركون الخطر الذي أحاط بهم جراء تسامح الآخرين وتجاوزهم عن السابقين، ومن غش اليوم في الامتحان، غش في الوظيفة، وخان الأمانة، والغش في الصغر كالنقش في الحجر.

أحمد بن عبد الله الملا


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/10419.html