العدد: 70 | الخميس 14 نوفمبر 2002م الموافق 09 رمضان 1423هـ

جماليات فريدة في جامع القضيبية

يأتي جامع القضيبية في سياق الصيحة المعمارية التي تشهدها البحرين في العصر الحديث والذي يشهد على تشييد المساجد والجوامع على أحدث الطرق التكنولوجية وبالأساليب التقنية الحديثة في عمليات البناء والتشييد.

وينضم جامع القضيبية إلى سلسلة روائع العمارة الإسلامية الموجودة حاليا على أرض البحرين وذلك لما يتمتع به من جمال معماري مميز في بعض عناصره وجاء البعض الآخر نتيجة لصهر واندماج بعض الطرز المعمارية الإسلامية التي ظهرت في بلاد إسلامية أخرى، وكانت هناك بعض الأجزاء التي نبعت من أصول خليجية وخصوصا البحرينية التي ألزمتها الضرورة البيئية لمنطقة الخليج العربي وعكسها ذلك الواقع الثقافي للمجتمع البحريني.

قديما كان جامع القضيبية ثاني جامع يُصلى فيه صلاة الجمعة بعد جامع الفاضل في المنامة، وكان ذا طراز بحريني قديم وبسيط من الخارج وأهم ما يميزه الشبابيك البحرينية المميزة والمصنوعة من الخشب، وكان الجامع مربع الشكل في هيئته الخارجية، والسقف من عروق خشبية وعليها رمل وأسمنت في طبقة خفيفة، وجاءت فكرة تجديده حديثا في العام 1408هـ نظرا إلى تزايد أعداد المصلين وقد وتمت إضافة قطعة الأرض المجاورة للمسجد التي كانت موقفا للسيارات، وقد اشتراها الديوان الأميري في عهد سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، وتم إلحاق قطعة الأرض بالجامع.

والجامع القديم كان هو الجزء الأمامي للجامع حاليا أما الجزء الخلفي وقطعة الأرض المجاورة فتمت إضافتهما وكان الجزء الخلفي قديما عبارة عن أروقة مفتوحة للسماء على هيئة براندات وفي عملية التجديد الأخيرة تم قفله وإلحاقه بالجزء الأمامي، والمسج في هيكله النهائي مستطيل الشكل وله جزءان جُعل الجزء الخلفي فيه لصلاة الفروض الخمسة فقط ويفتح الجزء الآخر مع الخلفي في صلاة الجمعة ويتولى فضيلة الشيخ فؤاد البحيري حاليا إمامته وخطابه الجمعة وهو من مصر، ويتسع المسجد لما يقارب 3000 مصل.

لقد روعي في تصميم المسجد أن يكون موجها إلى القبلة وعندما يدخل المصلي من الباب الخلفي يرى القبلة أمامه مباشرة، وان يتراص المصلون بجوار بعضهم في تساو وتواز للقبلة وقد ضم المسجد مصلى للنساء ودارا للمناسبات، كما ان المسجد تم تشييده وملحقاته بأحدث الطرق التكنولوجية سواء من أجهزة التكييف المركزية أو نظم الإضاءة الحديثة والأجهزة الصوتية التي تغطي مساحة الجامع الواسع.

ويرتفع سطح المسجد من الداخل حوالي 22 قدما تقريبا حتى السقف المعلق وروعي هذا الارتفاع ليناسب السعة الكبيرة للمسجد، كما انه ذو معزى سيكولوجي لنفس الشخص المسلم الذي يشعر عند رؤية ذلك الجمع أثناء صلاة الجماعة وبمرور نظره خلال ذلك الارتفاع لتسمو نفسه في رحاب وملكوت الله عز وجل، هذا بجانب وظيفته المادية في استيعاب الهواء اللازم لتنفس جموع المسلمين في صلاة الجمعة.

ويتمتع محراب جامع القضيبية بجمال معماري يبهر الناظر إليه ويجعله يقف مندهشا لتلك الروعة التصميمية والدقة المتناهية في اختيار العناصر وتعدد المساحات المرئية من المجسمات والفراغات والمساحات البينية في الزخارف النباتية والهندسية وروعة ودقة تفاصيل المنحوتات البارزة والغائرة للعناصر الزخرفية للمحراب.

والمحراب في جملته آية في الجمال وهو مربع الشكل تقريبا وله واجهة خارجية وأخرى داخلية وهي ميزة اتسمت بها معظم جوامع البحرين، والواجهتان فيهما تشابه في بعض الأجزاء ولكن تأخذنا الدهشة من روعة وبهاء منظر المحراب، فما ان تراه إلا ويأخذك التعجب والسكون وتجري العين يمينا ويسارا لملاحقة ذلك التنوع والدقة والمهارة التقنية في تصميم وتنفيذ ذلك المحراب الجميل.

على جانبي المحراب يوجد عمودان كبيران في واجهته الخارجية. والعمود ذو قاعدة مربعة ثم ينشأ في أطرافه تجويفان عن اليمين واليسار كأنصاف المحاريب وبطول العمود وينتصف من واجهة العمود عقد مخموس على شكل محراب وهو مسطح وفيه زخارف دقيقة وبارزة وغائرة لطبق نجمي هندسي. كما تعلو العمود أشكال على نصف محاريب من الجانبين وفي الواجهة قوسان صغيران، فوقهما زخرفة بارزة وجميلة يعلوها مستطيل بارز عن سطح جسم العمود ومكتوب فيها «سبحان الله» في خط بارز وعن جوانبه مربعان يحصران الكلمة في إطار بارز. وواجهة المحراب الأمامية لها عمودان قاعدتهما على هيئة ناقوس وهي مكررة في خارج المسجد بجوار قاعدة المنارة الخارجية ثم يلي قاعدة العمود الناقوسية أشرطة طولية على شكل فسطانات وفي منتصف العمود حلقات عرضية ثم تأتي فسطانات أخرى لينتهي العمود بنهاية رقيقة. ويتصل العمودان من أعلى على شكل نصف دائري لنصل إلى فتحة واجهة المحراب الأمامية التي تتدلى منها مجسمات لأشرطة متعانقة ومتبادلة ومتدلية في شكل بديع ونادر.

وتلك الواجهة قد تتشابه بعض الشيء مع بعض الزخارف المفرغة التي وجدت في قصر الحمراء بغرناطة وبعض المساجد الإسلامية الأخرى مثل الزخارف المسطحة لمحراب جامع الفردوس بحلب وواجهة المدرسة القاراتائية بقونية وكذلك واجهة المسجد الكبير بقرطبة، إذ ظهرت تلك الزخرفة الجصية المعلقة والمتدلية في شكل بديع ومميز عما سابقها.

ويعلوها لفظ الجلالة وتحيطها زخارف نباتية بارزة لحشوات جبسية تحمل زخرفة نباتية جميلة تتعانق فيها الأوراق وتدور في جمال متزن، وبتقنية رائعة التفاصيل ودقيقة التنفيذ. كما تعلو المحراب آية قرآنية نصها «فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب» وخطت الآية بخط كوفي وعليها زخارف بارزة وهي تتشابه مع آية محراب جامع الفاضل، ثم تعلوها آية «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» وهي مكررة أكثر من مرة ومتراصة في نهاية واجهة المحراب الخارجية.

ويوجد على يمين المحراب منبر من الخشب وهو بسيط الشكل ويعلو عن الأرض مقدار واحد متر تقريبا وحال المحراب كحال معظم المنابر في البحرين فهو يختلف عن المنابر المصرية والعثمانية المعروفة بارتفاعها لعدة أمتار، والمنبر من الخشب المفرغ على شكل طبق نجمي هندسي مفرغ وتوجد أسفل المنبر حشوة جصية لزخرفة نباتية ترجع إلى أصول أندلسية.

أما التجويف النهائي للمحراب فإنه يشبه إلى حد ما الواجهة الخارجية وهناك ساحة يقف فيها الإمام ولها مدخل لدخول الإمام في صلاة الجمعة، والمحراب الداخلي مستطيل الشكل وعندما تراه من الخارج تشاهد قيمة جمالية من حيث تناسبه مع الطول الفعلي لجدران المسجد وتمت زخرفته بشكل منسجم مع باقي الحشوات الخارجية للمسجد.

ويوجد بداخل الجامع وفي الجزء الأمامي 16 عمودا، ثمانية على كل جانب. تلك الأعمدة تعتبر من أهم ما يتميز به الجامع ويمكن اعتبارها نموذجا رائعا لاستخلاص بعض القيم الجمالية التراثية في العمارة البحرينية، ويحسب للتراث البحريني دون الطرز الإسلامية الأخرى فهو مميز في شكل مبتكر في تصميمه، وهيئته الخارجية.

وتلك الأعمدة على هيئة مقطع رباعي له بداية زخرفية لعناصر نباتية وهندسية بارزة وقد نحتت زواياه لكي تعطينا الإحساس بشكل نصف المحراب ذي العقد المدبب، وذلك التجويف يعتبر ميزة جمالية تمت استعارتها من صفة المحراب ووضعها في كل ركن من أركان العمود الواحد.

ولو بحثنا وراء ذلك العنصر الجمالي المتفرد في أعمدة جامع القضيبية لوجدناه قديما جدا في زوايا الكشتيل أو صفك الهواء وهو عنصر لم يتكرر كثيرا وكان يوجد على أطراف أبراج الهواء. وعند النظر إلى قيمته الجمالية فهو يجيء ليريح العين عندما تنزلق عليه لتنتقل بين أضلاع العمود بسهولة فلقد جاء ذلك التجويف لكسر حدة الزاوية الحادة التي دائما ما نراها على حافة زوايا الأعمدة فهو بهذا قد حقق رؤية جمالية أخرى للحين ويحسب هذا التجديد للمصمم البحريني الذي أراد ان يريح العين دائما ويبعدها عن النظر إلى الزوايا الحادة فقد جعل العين تسير بمرونة ويسر حتى على الأسطح المرئية العمودية، فكان انعكاسا لطبيعة الدين الإسلامي السمحاء ومرونته تجاه الأمور الحياتية فهو دين الوسط وفيه كل الخير والصلاح والراحة النفسية لمن ينتمي إليه.

كما تحتوي الأعمدة على تجاويف تضم مصاحف في أركانه لكي يسهل على المصلين الحصول عليها لقراءة القرآن في المسجد، ونظرا إلى اتساع المسجد جاءت فكرة تلك التجويفات في الأعمدة لتضم المصاحف كضرورة ملزمة للمصمم وحرصه على ان يحصل كل مصل على مصحف ومن دون عناء، وقد يرجع أيضا إلى نظرة اقتصادية من حيث توافر الأمكنة، فبدلا من ان تكون هناك مكتبات من الخشب في كل مكان وتشغل حيزا من المسجد فيمكن الاستفادة من هذا الخير في الصلاة فجاءت هذه التجاويف حلا ابتكاريا لكل هذه المتطلبات.

ويخبرنا المهندس إبراهيم المؤيد الذي كان له شرف تجديد هذا الجامع، والمعروف عنه بأنه تولى تجديد عدة مساجد في البحرين وهو شخصياَ يتمتع برؤية مميزة تجاه جماليات التراث، فهو مطلع جيد على أهم الطرز المعمارية الإسلامية في العالم الإسلامي وأيضا يتمتع بموروث ثقافي بحريني عريق ويعتبر عاشقا للتراث العربي والإسلامي، عن كيفية الوصول إلى تلك التركيبات الجمالية في أعمدة جامع القضيبية إذ انه يجمع في تصميماته الأولى بين أكثر من تصميم ثم يقوم بتركيب وإضافة بعض الأجزاء وحذف الأخرى ويقوم بعمليات تعديل مستمر حتى يستقر على الشكل النهائي للعمود فهو لا يستقر على شكل نهائي حتى يشعر بأنه يفي بالغرض الذي يناسب مساحة وحجم الجامع وكذلك لابد ان يرضي نفسه من حيث الجدية والتفرد وان يصل به إلى التميز


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/122055.html