العدد: 140 | الخميس 23 يناير 2003م الموافق 20 ذي القعدة 1423هـ

إلى حيث لا يعرف اسمك إنسان

كتب «بول ثيروكس» وصفا عن رحلته بالسيارة والقطار من القاهرة إلى مدينة رأس الرجاء الصالح بجنوب افريقيا، والأكثر اهمية من الرحلة انه ألّف كتابا يعد افضل كتب الرحلات في عصرنا الحاضر، إذ يعطينا وصفا دقيقا لزيارته الثانية لافريقيا، وترجع القصة إلى يوم ان كان شابا، مثاليا وطموحا. وذكر أن الدوافع التي قادته للقيام بهذه الرحلة بصراحة، إذ اصبحت حياته في موطنه روتينية، إذ ينتظر بول مدام بول لتصل إلى المنزل من العمل، ويظل الكاتب في مئزره «مريلته» يتصبب عرقا على صلصة البوشاميل، ودائما ما يكون على موعد يسمعه بالهاتف، لقد اصبح مريضا من المواعيد والانتظار ولديه رغبة في الاختفاء، مثل ريمبود. انه يريد ان يزور مواطن شبابه، عندما كان احد متطوعي مبعوثي السلام في ملاوي واستاذا جامعيا في أوغندا.

إفريقيا، كما يقول الكاتب، هي افضل مكان في العالم يمكن ان يختفي فيه إنسان. مثل هوك، رحل بعجلة فائقة إلى ذلك الاقليم. يقول جذلا «اختفيت بأعجوبة في ادغال اوغندا...» وعندما ارتحل كان في الستين من عمره تقريبا، وكما يتطور سرد القصة، إذ ينتقص الافارقة دائما في تقدير عمره الامر الذي يجده الكاتب مُرضيا وسارا. اذن هذه القصة ايضا عن العمر ومكتسباته، ويظهر ذلك من خلال ملاحظاته عن الكتاب والمؤلفين وحواراته معهم، ثلاثة منهم حصلوا على جائزة نوبل، وهم فيديا نيبول الذي درس معه في أوغندا...

وكانت الشخصية الاولى التي حازت على جائزة نوبل هم نجيب محفوظ، وقد حضر ثيروكس تجمعا ادبيا حاشدا على الطراز القديم إذ برز نجم محفوظ في الساحة. ومثل جميع مقابلات ثيروكس مع الادباء، لم يمر لقائه به بسلاسة على الاطلاق. هناك الكثير من لغة الشك والارتياب عن «اسرائيل» والولايات المتحدة ونوبل ولكن مع كل ذلك ظل محفوظ جالسا في هدوء وسكينة.

كان هدف ثيروكس ان يدخل السودان برا ولكن هناك عوائق تتمثل في جهل هويته بالاضافة للعدائيات القديمة.

السودان هو بداية لافريقيا الكبرى. لقد تردد ثيروكس كثيرا على السفارة السودانية في القاهرة ليعرف السبب في الاعتراض على سفره عن طريق البر. فالمصريون يرحبون بالسياح منذ عهد هيرودوتس، ولكن خلطهم للصداقة والشفقة بالابتزاز المالي اغضبه حتى عندما يخب بفرس نحو الاهرامات مع مرشد يصرخ على الهاتف النقال. اخيرا حصل على تأشيرة واضطر إلى أن يسافر إلى الخرطوم جوا اذ ان الحدود كانت مغلقة.

انها حقيقة فريدة في افريقيا إذ من السهل في احيان كثيرة السفر جوا إلى اوروبا بدلا عن عبور حدود دولة مجاورة، في الخرطوم اقام في فندق الاوكروبول الذي يديره يوناني يعرف كل شخص وأي شيء عن البلد. لدى ثيروكس موهبة في ايجاد الناس الكرام اينما ذهب. لايهمه كثيرا اوهام سياحة السكن - فهو متواضع في ملبسه، يتمشى على الطرقات الداخلية. ذهب إلى المكان الذي دمره كلنتون بصارخ كروز بعد تفجير السفارة في نيروبي، عسكر تحت الاهرامات السودانية، ضايق بالاسئلة مرشدية عن الازدواجية لديهم تجاه اميركا، وفي بيت الاسرة على شاطئ النيل تحدث إلى حفيد قاتل «الجنرال غردون»، المهدي.

ولدى ثيروكس مهارة فائقة في سرد تفاصيل محادثاته وملاحظاته الحادة . بعض من كلماته الحادة كانت عن «عملاء الفضيلة»، منظمات الاغاثة الذين يديرون عملياتهم الخاصة، مجهزون بسيارة لاند روفر بيضاء ساطعة. وقد تحقق في الزعم بأنهم وكلاء للفساد والقصور الذاتي وسط الفئات الحاكمة، وذلك باطلاق هذه الفئة وجعلها تركز على الوظيفة العاطلة، وكوادر تعوزها البراعة بينما تتجاهل الاحتياجات الصحية والرعاية الاجتماعية الأساسية. والافارقة، وفقا لتقدير ثيروكس، هم أخمل شعب على الارض بسبب حكوماتهم الخاصة بهم وحكومات اجنبية على حد سواء.

تقدم ثيروكس من السوادان جنوبا إلى كينيا. هنا تصبح الامور اكثر خطورة. تم اطلاق النار على موكبه بواسطة الشيفتا، قطاع الطرق الصوماليين. وتنسب هذه الظاهرة تقنيا لكينيا ولكن واقعيا هي مجموعات في الصومال. ولا يرغب ثيروكس في رحلات القنص أو الفنتازية الافريقية لكارين بلكيس وكولي غالمان، وبدلا عن ذلك فهو مولع بالبحث عن الفساد المتفشي والقمع.

في نيروبي اخبره كاتب كيف انه حبس في زنزانه فائضة بالمستنقعات. وباستمتاع استمع إلى القصص الفظيعة التي جرت للآسيويين ولاحظ التشويه وحالات القعود المستديم في شوارع نيروبي. في اثيوبيا افتتن ثيروكس بالجالية الراستفاريانية. وكان ثيروكس في الماضي يتحفظ في ثنائه، لكن في هذا الكتاب اظهر تعاطفا كبيرا مع الافارقة العاديين والمزارعين الزمبابويين والآسيويين من امثالهم. افريقيا، كما تبدو، وقعت في نوع من كابوس كافكاوي لمنظمات اغاثة مضللة، ومبشرين جهلاء، وسياسيين مفسدين، في اجواء من الخيال الجامح السيء.

احدى اهم محادثاته التي تم سردها في رحلته، كانت مع زملاء قدامى في اوغندا حيث تكتموا عن البوح بأن هناك علاقة بين طرد الآسيويين والتخلي عن اقتصاد التجزئة.

هؤلاء الناس يبالغون في تقديرهم للآسيويين بأنهم مجرد تجار حبوب. ويبدو ان ذم نيبول لزملائه في التسعينات - والذي ذكره ثيروكس في كتابه - يوجد له بعض المبررات.

ووفرت له «ملاوي» اثنتين من اكثر تجاربه الحيوية - إلتقى طبيبة ارسالية كبيرة من ايرلندا الشمالية، كما قام برحلة حفريات إلى حدود موزمبيق مع مرشد مدخن للمخدرات. هاتان التجربتان تجذرتا في قلب القضية، إذ ان طبيبة الارسالية فقيرة وتدير مستشفى لا يفي بحاجتها عندما تتقاعد هي وزوجها عن العمل، لتذهب تضحيتها لسنوات عدة ادراج الرياح.

اما الرحلة إلى (نهر شير) فتومي إلى انه باستطاعة الافارقة المحافظة على حياة ناجحة ولو على مستوى متدنى. ربما هذا ما يرغب فيه «موغابى» لزيمبابوي ان تجد طريقة للعيش فقط، انه يخلق بالتأكيد ظروفا للاقتصاد الذاتي. المشاهد الزيمبابوية قوية، جنون احتلال المزارع، فوضى القيم، ضعف المزارعين البيض، مازالوا ينتظرون المحاكم أو الغرب لانقاذهم، ووراء كل هذا احتمال حدوث مجامعة شاملة.

تظهر جنوب افريقيا القليل من المتناقضات في قصة ثيروكس.

وينتقد ثيروكس الرحلات الفارهة ولكنه ذهب إلى مالامالا، نموذج شيء فاره واعجب كثيرا بمالكها. كما اعجب بالجنوب افريقيين البيض لثقتهم المفرطة في القضايا الثقافية والتاريخية. ولكن اتصالاته بأديبة ثانية حائزة على نوبل هي «نادين جورديمر» تبدو عجيبة، من حيث وصفه لصورتها ومظهرها ومن تقييمه الشهم لدورها باعتبارها كاتبة قومية على حد سواء. قالت عن الكتاب الذين غادروا: «عبدان غادروا...ماذا كتبا؟». بوصفها ملاحظة شخصية، دائما ارغب في تفادي رواية التفرقة العنصرية، وقد ناقشت ذلك مع جوردمير. اعتقد ان السؤال هو ماذا كانت ستكتب إذ هي نفسها قد غادرت؟

كانت رحلة ثيروكس إلى مدينة رأس الرجاء الصالح بالقطار الفاره بمثابة جائزة على الكد والعمل الشاق اكثر من كونها رحلة عمل ضرورية وتجواله حول كيب تاون - المعسكرات الخفيضة والعريضة، روبن ايلاند، الثقافة المحلية - تعوزه الحماسة.

خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/194184.html