العدد: 190 | الجمعة 14 مارس 2003م الموافق 10 محرم 1424هـ

هل ظهرت فاطمة الزهراء(ع) فعلا في البرتغال؟!

قبل حوالي سنتين من الآن... أشارت نشرة دينية وزعت في مآتم البحرين وخصوصا في العاصمة المنامة إلى وجود منطقة في البرتغال تدعى (فاطيما) FATIMA ظهرت فيها السيدة فاطمة الزهراء (ع) مطلع القرن العشرين، وأضافت النشرة «ان ذلك دليل على تواصل بركات آل البيت على العالم في كل مكان»... وأشارت النشرة إلى أن وفدا من الجمهورية الإسلامية الإيرانية زار المنطقة وقام بتصويرها وجمع معلومات عنها، وخصوصا أنها صارت اليوم أشهر وأقدس بقعة لدى المسيحيين ـ الكاثوليك بالذات ـ في العالم المسيحي، بل وحتى للديانات الأخرى للسياحة دينية.

فما الحكاية؟ وهل فعلا ظهرت سيدة نساء العالمين (ع) في أكثر بقاع الأرض تعصبا ضد الإسلام والمسلمين منذ سقوط لشبونة العام 1147م وغرناطة العام 1492م؟!

تعالوا نعرف الحكاية من البداية ومن أرض Fatima نفسها. لقد ساقتني الأقدار ضمن دراساتي عن تاريخ الخليج العربي إبان الفترة البرتغالية، إلى زيارة البرتغال والمكوث هناك لمدة سنة تقريبا... قمت خلالها بزيارة منطقة «فاطيما» التي تسمى أيضا بمقاطعة (Cova da Lria) وبها أبرشية أو كنيسة «فاطيما»، وتبعد عن العاصمة لشبونة بالباص حوالي ساعة ونصف. المكان له خصوصية وعبق روحي ككل الأماكن الدينية في العالم، حتى الدكاكين والمصاطب للباعة الثابتين والمتجولين وهم يحملون المسبحة المشهورة بها هذه القرية، والصور والأيقونات والتماثيل كلها تصب في سياق هذا المحفل الديني المسيحي.

من أين جاءت فاطيما؟

- تقول الحكاية المسيحية والتي ترويها «لوسيا Lucia de Jesus» باعتبارها هي الباقية الآن على قيد الحياة من أولئك الذين رووها في أول ظهورها، إنه في صباح يوم 13 مايو/ آيار من العام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى وبينما كانت هي ـ لوسيا ـ وعمرها آنذاك عشر سنوات ومعها ابن عمها فرانسيسكو وجاسينتا (9 و7 سنوات)، يرعيان الأغنام، ظهر لهما فجأة في السماء بين أشجار الحقل طيف أو شبح امرأة حسناء ملائكية الوجه وهي تحلق في الهواء، وقالت لهم: لا تخافوا، إنها لن تؤذيهم، وانها جاءت من السماء برسالة سلام لكل رجل وامرأة وطفل في هذا القرن (طبعا العشرين). وأضافت أنها جاءت في الوقت الذي مزقت فيه الحرب والعنف الدامي وجه الحضارة البشرية، ووعدهم ذلك الطيف بأن السماء ستمنح السلام لكل العالم إذا داوم الجميع على الصلاة والتسبيح، وان هذه الحروب والمجاعات في أوروبا والعالم هي عقاب من الرب لذنوب البشر وتحذير منه لعصيان البشر له وللاضطهاد والغبن الذي تتعرض له الكنيسة ـ الكاثوليكية طبعا في روما ـ والباباوات والمخلصون الكاثوليك في هذا العالم ـ لاحظوا أنهم يتحدثون عن العالم وكأنه مسيحي 100 في المئة وليست هناك أديان أخرى معه ـ فانتهزت لوسيا الفرصة، وسألت الطيف عما إذا كانت هي ستذهب إلى الجنة ومعها ابن عمها!، فرد الطيف بنعم إذا وهبت نفسها للرب فقط ولإبلاغ رسالة الطيف إلى العالم نيابة عن السيد المسيح والرب، وكذلك معها ابنة عمها جاسينتا، أما فرانسيسكو فلم يكن معهم حاليا لأنه يحتاج إلى إعادة تأهيل عن طريق ترديد الكثير من التسبيحات بحسب حبات عقد المسبحة!! وطلبت هذه الشخصية أو الطيف من الأطفال الثلاثة أن يأتوا إلى هذا المكان وهي قرية (فاطيما) لمدة ستة أشهر متتالية في كل يوم من تاريخ 13 من تلك الأشهر في مثل الوقت الذي ظهرت لهم فيه لأنها ستقابلهم ست مرات متتالية في المكان نفسه لتبلغهم رسالتها الربانية. وركزت على «لوسيا» وهي الراوية للحدث كما قلنا، انها هي فقط التي تم اختيارها من قبلي ومن قبل الرب لتحمل كل المصاعب والآلام والتضحيات لإبلاغ رسالة الرب بالسلام وإعادة تصحيح الديانة المسيحية للعالم وإعادة المذنبين إلى حظيرة الدين من جديد «وستكون نعمة الإله هي راحتك في هذه الدنيا».

وظل هذا الطيف الرسولي ـ كما يدّعون ـ يأتي إلى هؤلاء الأطفال الثلاثة ـ لاحظوا أعمارهم الصغيرة وبراءتهم ـ وأطلق عليهم فيما بعد «العرافون الثلاثة»، فجاءت في 13 يونيو/ حزيران، و13 يوليو/ تموز، و13 أغسطس/ آب، و13 سبتمبر/ أيلول، و13 أكتوبر/ تشرين الأول، إذ حدثت المعجزة كما يقال في ذلك الشهر أمام حوالي 70 ألف متفرج وشاهد (لست أدري من الذين أحصاهم بهذا الشكل الكمبيوتري، ولتأكيد الحدث في الذاكرة الجمعية للمسيحيين)، في شهر يوليو ركزت المرسلة على بعض الأمور السياسية في العالم، وفي شهر أكتوبر ـ كما وعدت الرعاة الثلاثة ـ حدثت معجزة، آمن بها كل باباوات وقساوسة الدين المسيحي إلى اليوم، وهي معجزة الشمس كما يسمونها، إذ بدت الشمس قرصا معدنيا واقتربت من الأرض كثيرا حتى ان الجميع صار يمكنه النظر إليها دونما صعوبة أو ألم في العين، وتراقصت الشمس بألوان قوس قزح ودارت حول نفسها كدولاب من نار، ثم ارتفعت من جديد إلى كبد السماء وكأن شيئا لم يكن! وفي ذلك اليوم بالذات طلب هذا الطيف الرسولي أو الملائكي من الجميع في ذلك المحفل الجماهيري أن يقيموا أبرشية أو كنيسة لقداس الطيف (القداس كما قالت) وباسم «Lady of the Rosar» «أي سيدة المسبحة» أو التسبيحات إن شئنا.

تلك هي الحكاية التأريخية ـ الدينية، أو الأسطورة الدينية باختصار كما وردت في كتاب (لوسيا بنت عيسى) كما يسمونها، والذي رأيت طبعاته بأكثر من لغة في المنطقة وفي المتحف الخاص بهذه الحادثة الذي أقيم بتقنيات حديثة مع الصوت والصورة قرب الكنيسة الحالية لشرح تفاصيل الحادثة بالكلمة والصوت والصورة.

وهناك رأيت الكثير من الناس يشترون الشموع الصفراء الداكنة ذات الحجم الكبير طولا ويحرقونها في محرقة الشموع قرب موقع ـ تمثال سيدة المسبحة ـ تيمنا وتبركا بها في حياتهم ويصلون أمام التمثال ـ صلاة مسيحية طبعا ـ ويغادرون المكان أو بعضهم يجلب طعامه وعائلته معه ويجلسون ساعات طويلة يأكلون ويتسامرون تبركا بالمكان. ومن هؤلاء من يعتقد أن ذنوبه الكثيرة والتي يرتكبها كل يوم ـ ويظل يرتكبها حتى بعد حضوره هنا ـ ستذهب وسيسامحه الرب إذا جثا على ركبتيه من نقطة معينة خارج محيط التمثال لمسافة تزيد على 250 مترا ويظل يزحف على ركبتيه ـ البعض يصنع انكل رياضي ـ حتى يصل إلى موقع تمثال سيدتهم ويطلب المغفرة منها لذنوبهم وفجورهم؟!!.

لا أريد الإطالة في وصف ما يحدث هناك أو وصف المكان الذي تحول مع الأيام إلى أعظم كنيسة بعد الفاتيكان في أوروبا الغربية الكاثوليكية بالذات.

لكن لنقف قليلا مع حدث في العام 1917 وخلفياته وتداعياته وما علاقة كل هذا بما قيل هنا عن فاطمة الزهراء (ع).

أولا: لقد تم صب الحكاية ـ مهما كانت جديتها أو أسطوريتها ـ في قالب دراماتيكي مسيحي مازال يستخدم إلى اليوم في حث بقايا المجتمع المسيحي المتحلل على الرجوع إلى حظيرة الدين الذي يعتقدون به وليس المسيحية الأولى طبعا، فتم اختيار منطقة قروية نائية غير معروفة ليس في أوروبا فحسب بل وفي البرتغال نفسها، واختيار رعاة ماشية، وسنرى العلاقة بين ما حدث هنا وما حدث في فرنسا العام 1846.

ثانيا: تم اختيار أطفال صغار غير متعلمين من بيئة فقيرة في الحرب العالمية الأولى، إذ يعاني العالم من ويلات ودمار الحروب آنذاك وبالذات في أوروبا. وتلك عادة الأوروبيين الدينية، كلما حلت بهم الفواجع ولا يجدون لها حلا عند البشر لجأوا إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن ليس الله كما نعرفه نحن بل الرب كما يعرفونه هم، ويعتقدون أنهم سيتخلصون من كل الآلام بمجرد التصحيح والعودة إلى بعض العبادات ومنها التسبيحات هنا فأطلق على هذا الطيف «سيدة المسبحة»، وأيضا سميت «العذراء الموهوبة أو المحفوظة» وهي بخلاف مريم العذراء الأولى أم السيد المسيح (ع).

ثالثا: الغريب في الأمر أن يتم اختيار هذه الطفلة ذات السنين العشر (لوسيا) دون غيرها من الصالحين ورجال الدين رسولة جديدة إلى العالم ككل وليس المسيحي كما يبدو لأنها ـ أي الطيف ـ قالت لها إن الحروب في العالم والجوع بسبب عصيان الرب واضطهاد الكنيسة والباباوات. وعلينا أن نرجع إلى الوراء لنتذكر كيف قامت الحروب الصليبية الأوروبية ضد المشرق الإسلامي في القرنين 11، 12 الميلاديين بعد أن أذاعت الكنيسة الكاثوليكية في روما بأن يوم الخلاص سيكون العام 1000 ميلادية وان القيامة ستقوم في ذلك العام، ولذلك ربحت الكنيسة الأموال الطائلة من وراء بيع صكوك لدخول الجنة أطلق عليها (صكوك الغفران)، وهي لعبة دينية من قبل الباباوات وكان معهم الملوك آنذاك في أوروبا على مشاعر الناس لاعتقادهم بأن ذنوبهم وفجورهم ستغفر وتزول بجرة قلم وتوقيع من الباباوات فقط. وبعد أن خافت الكنيسة من فقدان شعبيتها وصدقيتها لدى الناس بسبب كذب تلك الرواية عن قرب يوم القيامة... قالت للناس إن يوم القيامة لن يأتي مادام المسيح يتعذب في الشرق بفعل سيطرة المسلمين على بيت المقدس «لنحرر بيت المقدس من أيدي المسلمين كي يرضى عنا الرب ويغفر لنا ذنوبنا قبل أن يأتي يوم القيامة»!!

وهذا ما حدث في صورة مصغرة منه لوضع الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا في الحرب العالمية الأولى لأنها لم تستطع منع الحروب أو إيقافها في أوروبا. ولذلك نرى في الحكاية تكرارا طويلا عن الحرب العالمية الأولى وانها ستتوقف ـ ببركات الكنيسة ـ وتدخلها في الوقت المناسب إذا عاد المسيحيون إلى الدين وعن طريق تسبيح الرب وطلب المغفرة وعدم اضطهاد الكنيسة وقساوستها وعدم سحب الثقة منهم أو إهانتهم، كما ورد في الرؤيا الأخرى التي ادعت لوسيا أنها رأتها في إسبانيا بين أعوام 1925 ـ 1930.

رابعا: الغريب في أمر تلك الرؤيا أو الحكاية الأسطورة، أنها ركزت في أكثر من مرة من ظهور ـ الطيف ـ في أشهر يونيو ويوليو وسبتمبر وأكتوبر، على الثورة الشيوعية الوليدة آنذاك في روسيا، إذ قال الطيف ما معناه «روسيا ستؤدب قريبا لأنها نشرت أخطاء الإلحاد والمادية على الأرض!، وهي التي حرضت على الحروب وإبادة الأمم واضطهاد المخلصين (المسيحيين) في كل كان، وإذا طلباتي الدينية لم تلبِّ، فإن روسيا تنشر أخطاءها في أنحاء العالم كافة، وستضطهد الكنيسة وتحاربها وستعاني الأمم كثيرا منها»، ولذلك أكدت ـ العذراء الموهوبة ـ ضرورة صلاة المسبحة يوميا وتكرارا مع التوشح باللباس الديني المحتشم والقيام بأعمال تستحق التضحية من أجلها، وذلك لكي نقف ضد انتشار الإلحاد الروسي ولإعادة تحويل «تلك الدولة الفقيرة» إلى المسيحية الكاثوليكية أو الأرثوذكسية على الأقل مرة أخرى.

إذا هي جزء سياسي مهم من قبل الحلفاء الذين تركتهم روسيا الشيوعية بعد انسحابها من التحالف وفضح مؤامرات الحلفاء وخصوصا سايكس بيكو الوطن العربي، فذلك الصراع السياسي استخدم فيه الدين المسيحي لوقف التحول في روسيا ومقاومة أي تصدير لثورتها في أوروبا والعالم، وهنا يبدو واضحا أن هذا التفسير أدخل فيما بعد في هذه الحكاية لأن الثورة أساسا لم تتضح في روسيا في تلك الفترة المبكرة من العام 1917، أضف إلى ذلك أن الرؤيا تنبأت بقيام الحرب العالمية الثانية. إذا روسيا لم تتراجع عن الشيوعية ولم تعترف بالدين المسيحي، وهم يعلمون أن أفكار الشيوعية الماركسية واللينينية لم تترعرع وتنمو ـ ضد الدين ـ إلا في بيئة الانحراف الأوروبي وتشويه الدين المسيحي على الدوام. وللعلم فإن روسيا ـ عسكريا وسياسيا ـ ليست هي السبب لا في الحرب العالميتين الأولى ولا الثانية.

خامسا: للعلم ان خبر ظهور العذراء المحفوظة أو الموهوبة أو «ملكة مظاهر السماء» كما يسمونها أيضا، سبق هذه الحادثة في البرتغال، وكأنه كان تقديما لها، ولكنه حدث في منطقة جبل (La Salette) فرنسا في يوم 19 سبتمبر من العام 1846؛ ولكن لم يعلن ذلك الحدث ـ كما يقال ـ إلا العام 1879، وأعيد نشره بموافقة الكنيسة في ليون العام 1904، وذلك الادعاء بظهور العذراء المقدسة في منطقة ريفية أيضا وأمام راعي أبقار (ماشية) ولاحظوا اختيار المناطق القروية الفقيرة والفطرية بحيث تشابه بيئة السيد المسيح (ع)، أبقار وأغنام وأشجار، ولكن رواية العام 1846 تقول إن الحدث كان مع ظهور طفل صغير بريء طلب المكوث مع راعي الأبقار لأن سيده الذي أرسله إلى (ميلاني) يريد ذلك، وأبقاه الرجل الراعي معه بعد رفض متكرر. فماذا حدث بعد ذلك؟

(البقية في الحلقة المقبلة


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/202538.html