العدد: 1606 | الأحد 28 يناير 2007م الموافق 09 محرم 1428هـ
لماذا الخلود يا كربلاء؟!
ها هي كربلاء الإباء تعود من جديد متشحة بثوب السواد كالليل، تذرف دموع الحزن وتنشد الويل، لأمة قتلت ابن بنت نبيها، لتجدد في عامنا هذا، بل في أيامنا هذه معاني العزة والشموخ، الحب والولاء، السمو والرفعة... أقبلت عاشوراء مطأطأة الرأس منحنية الظهر تأنُ أنين المفجوع، على ذلك النحر المقطوع، تفيض من جنباتها شجن ودموع بنداء مسموع:
كذب الموت فالحسين مخلد
كلما أخلـــق الزمـــان تجـــدد
وكلما تمر ذكرى العاشر من محرم تلوح في أفق الكرامة شخصيات سطرت بدمائها معاني العزة والإباء كالحسين بن علي والعباس وعلي الأكبر والقاسم بن الحسن عليهم السلام، وغيرهم الكثير من رجال الفداء الذين رووا بدمائهم ملحمة الإسلام الخالدة الأبية ونصروا منذ أربعة عشرَ قرنا إسلام محمد (ص)، وتفانوا في نصرة الحق وذابوا في أهله، فشيدوا بأرواحهم قصورا في الجنان وتزوجوا حورا وتقلدوا الريحان.
بعد هذه الديباجة السريعة لأبطال الطف الكرام، سأتطرق عزيزي القارئ لسبب خلود الطف وتجددها على مر الأزمان.
إن معركة العاشر من محرم ليست مجرد حرب شارك فيها طرفان وانتصر أحدهما على الآخر، بل هي مدرسة تتجول في مدار الأزمان لتحكي ما حدث وما كان، واجه الحق فيها براية الحسين بن علي (ع) الباطل كله. خاطب الحسين (ع) في هذه المعركة الوجود الإنساني ككل، صغيرها وكبيرها، رجالها ونساءها، وقدم فيها الدروس الكبيرة التي يعجز عنها كبار العلماء والقادة. أعطى الإنسانية جمعاء، مسلمها وكافرها، كيف يكون الجهاد من أجل القضية ومن أجل الحق وكيف تسطر الدماء الفكرة وتبين ما تعجز عنه السيوف.
إن الهدف الأكبر لسيد الشهداء هو الإصلاح في أمة شابها الانحراف، في فكرها وعقائدها حتى رجعت جاهلية، فاضطلع بدوره كقائد شرعي للأمة الإسلامية لتنقية الدين والحفاظ على صفائه وأريحيته، كيف لا وهو السبط الذي عاش مع الرسول الكريم (ص) ونهل منه وأخذ عنه وتفجرت منه ينابيع المعرفة والعلوم، فلو تأملنا دعاءه (ع) في يوم عرفه لتلمسنا التأصل الديني والعلمي لهؤلاء والقوم.
وعلى رغم ما حصل في كربلاء فإنه (ع) استطاع أن ينشر راية الصلاح والإصلاح، واستطاع أن يظهر الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ولما كانت رايته راية هدى، جاء سر الخلود في بقاء هذه الذكرى الأليمة، فلو لم يخلّد الحسين (ع)- بدمه- الإسلام لانهار صرحه وضاعت الرسالة، كيف لا ونحن عندما نجدد في كل عام الحق وهو الإسلام - فإننا نحافظ على الإسلام. إن حركات الحسين (ع) مثلت الإسلام الأصيل وبتذكرنا لحركاته في كل موقف تنذكر الإسلام. ونظرا لفاجع مصيبته فإنها لا تنسى أبدا فنظل نبكي ما حدث ليلا ونهارا ونتذكر هدف ما حصل ولماذا حصل، ولولا دمائه الشريفة وأهل بيته وأصحابه الأوفياء لسُكِّرت عقول الناس وأبعدت عن جادة الحق وأعلنت جاهلية عمياء وساد الفساد في الأرض .
ناهيك عن أن هذه المعركة تلامس الروح البشرية وتداعب عواطفها لما حصل لآل الرسول الكريم (ص) من ظلم وهوان وغدر، نعم الغدر وهو سلاح الضعفاء. لقد غدروا بالعباس (ع) واختبئوا خلف النخلة وباغتوه بالضربة في موقف - لأنصار بني أمية - يخزيهم ويسجل وصمة عار على ما عليهم فلم يقاتلوه قتال رجل لرجل، وغدروا بالحسين (ع) وجميع صحبه حين منعوه من الماء ولم يقاتلوه بشرف.
نعم، ظلموا أهل بيت الرسول الكريم، أشراف القوم وأعلمهم وهم الذين قيل فيهم «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى»، ولكن ماذا فعل القوم بهذه القربى؟1 أحقا قدموا الحب والولاء والمودة أم إنهم غدروا وانقلبوا على أعقابهم؟! «وما محمد إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم» (آل عمران:144).
وانطلاقا من الالتزام بآيات الله في الكتاب الحكيم وحفظ المودة لآل الرسول الكريم (ص) بالإضافة إلى الحب العميق الذي يختلج نفوسنا، نجدد التأييد والولاء لعصبية أفنت عمرها من أجل الإسلام فلا نجد أنفسنا إلا ونحن نبكي عليهم ليلا ونهارا لما حصل من مآسي لا يتحملها إلا هم - عليهم السلام - فنجد نسيانهم مستحيلا، فكل الصعاب لا ترقى إلى صعاب الحسين وزينب - عليهما السلام - وتهون أمام هذه الرزايا العظام.
بالإضافة إلى تجسد الإسلام في أهل البيت (ع) صغيرهم وكبيرهم تجسدا ينطلق بهم إلى أرضية الحركة وليس إطار الفكرة، فعندما نتأمل صلاة الحسين (ع) في ظهر العاشر في أحلك الظروف، وهذا الالتزام الشديد بأداء فريضة الله، والقوم الآخر ينظرون في دهشة إلى صلاة الحسين وأصحابهم وكأنهم غير معنيين بهذه الصلاة، والذي زاد الطين بلة هو قيامهم برشق المصلين أثناء الصلاة، فقولوا لي أي إسلام يتمتع به هذا القوم وأي احترام لهؤلاء العصبة لدين الله، الذين لم ينقل لنا التاريخ صلاتهم بل نقل فعلهم الشنيع فأين إسلامكم يا ناس؟ أكيد كيف يهتمون بالصلاة وهم قد عزموا على قتل الصلاة باغتيال إمام الصلاة وسيد الهدى ووطنوا نفوسهم على خذلان الحق ونصرة الباطل.
هكذا أرانا الحسين (ع) الذوبان في الله في جميع التحركات وفي كل الظروف، سرائها وضرائها وبذلك عبّد لنا (ع) الطريق نحو الله سبحانه تعالى. ونحن عندما نقف للصلاة يقف الحسين أمامنا ونتذكر صلاته (ع) وندين له بهذه الصلاة، فنجدد خمس مرات في كل يوم الحسين في الوجدان. فهل عرفت لماذا بقي الحسين (ع)؟ بقي لأنه صوت الحق المجلجل للظالمين، فمتى ساد الظلم ظهر الحسين (ع) أمل المستضعفين وقدوة المظلومين، وطالما بقي الحسين (ع) بقيت جذوة الحق تشتعل داخل النفوس ولاح في الأفق أمل التحرر من الظلم والطغيان حتى لو كانت بالدماء والأنفس.
كما أنها الملحمة التي أراد خالق هذا الكون أن تبقى وتخُلد، إذ وقفت الكثير من الأيادي لمحو ذكرى الطف وطمس حوادثها ولكن عبثا لم تستطع. فلو تأملنا في تاريخ الغاضرية لوجدنا كيف حاول الأمويون طمس كربلاء وكذلك الشأن في العباسيين فلم يستطع الحجاج في زمانه ولا صدام في زماننا ولن يستطيع أحد أن يخفي معالمها وستبقى ما بقي الليل والنهار، وما بقي الظلم والعداون. يذكر المؤرخون أن الدولة الأموية منعت وبشكل حازم زيارة قبر الحسين (ع) ووضعت كل العراقيل لمنع زوار أبي عبدالله، ولكن الزوار اتخذوا الليل أنيسا للوصول إلى القبر الشريف. ويذكر آخرون أن أحد حكام بني العباس حاول زرع تلك المنطقة ليخفي معالم القبر الطاهر، لكن المياه عندما قربت من القبر حارت (دارت حول القبر) لذلك سمي المزار بالحائر. وهكذا يروي لنا التاريخ تلك المحاولات الفاشلة لمسح آثار الثورة المخلدة... هكذا أرادها الباري وأرادها الحسين (ع) مستمرة باستمرار الزمان.
وأخيرا، علينا أخي المسلم أن نتأمل في انتفاضة الحسين وننفتح بروحنا في الحسين وأهل بيته (ع)، لنعيش الحسين ونتحرك نحو الحسين في كل لحظاتنا وننطلق في سماء الكرامة ونحلق فيها كما حلق الحسين وأصحابه الكرماء.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين جميعا ورحمة الله وبركاته.
محمد عبدالرسول عبدالله
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/213216.html