العدد: 1705 | الإثنين 07 مايو 2007م الموافق 19 ربيع الثاني 1428هـ

معضلة الولاء في البحرين

الكاتب: نادر كاظم - comments@alwasatnews.com

أشرنا في مقال الأسبوع الماضي أن باب الفساد والتأزمات إنما ينفتح حين تنشأ مطالبات بالولاء السياسي خارج إطار الوطنية الدستورية. وقد قادت مثل هذه المطالبات إلى محذورين كان لهما تداعيات سلبية على الوضع العام وعلاقات الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في البحرين: المحذور الأول هو المتاجرة بالولاء إذ صار الولاء سلعة معروضة قابلة للبيع والشراء، وأصبح الولاء هو المقابل الذي ينبغي أن يدفع مقابل التحصّل على منافع وامتيازات خاصة خارج صيغة التعاقد الدستوري. وكانت عاقبة هذا التسليع للولاء أنه جرى تحويل جماعات بأسرها إلى «جماعات وظيفية متحوسلة» (متحوسلة مصطلح صاغه عبدالوهاب المسيري ويقصد به تحول الذات إلى وسيلة)، لا قيمة لها إلا بما تؤديه من وظيفة «بيع الولاء»، وصار العضو في هذه الجماعات «إنسانا ذا بعد واحد يمكن اختزال إنسانيته إلى هذا البعد أو المبدأ الواحد، وهو وظيفته» (عبدالوهاب المسيري، الجماعات اليهودية الوظيفية، ص15)، وفي حالتنا يكون الولاء هو الوظيفة المنوطة بالعضو الموالي. ومما ساعد على ترسخ هذه الطبائع هو تركّز أبناء هذه الجماعات في وظائف الأمن والدفاع، وهي عادة وظائف تتناسب مع أعضاء الجماعات الوظيفية (انظر: الجماعات اليهودية الوظيفية، ص21).

والمحذور الثاني هو التشكيك الدائم في ولاء طائفة معينة في البحرين بحجة أن لهذه الطائفة ولاء مزدوجا أو ولاء عابرا للحدود الوطنية. أما المحذور الأول فقد سبق أن تناولته بمعالجة مطولة في سلسلة مقالات نشرت بهذا الموضع من جريدة الوسط على مدى شهرين كاملين. وأما المحذور الثاني فسنكرّس له هذه السلسلة الجديدة من المقالات. وسنحاول هنا أن نقدم مقاربة لهذه القضية المزمنة ضمن إطارها الحقيقي بوصفها جزءا من الآثار الجانبية السلبية للفشل العام (أي إنه فشل تشترك مختلف الأطراف في صنعه) لعملية التوافق داخل الدولة. وهذا الفشل هو الذي حوّل جماعات «سنية» إلى «جماعات وظيفية متحوسلة»، وهو ذاته الذي نشّط طبائع هذه الجماعات لدى شيعة البحرين، وتجلت هذه الطبائع فيما يعرف بظاهرة «الأصلانية أو الأهلانية» (nativism) وهي أيديولوجيا أو سياسة تقدم مصالح وحقوق السكان الأصليين على حساب المهاجرين والمواطنين الجدد. وبهذا المعنى صار شيعة البحرين يعرّفون أنفسهم بأنهم «سكان البحرين الأصليون»، وصارت البحرين قبل العام 1783م بالنسبة إليهم هي «البؤرة التي تتركز فيها عواطفهم الإنسانية الجياشة»، ويتجه نحوها حنينهم العارم، بل صاروا يفكرون في أنفسهم وفي الآخرين وفي واقعهم من خلال هذه «الأصلانية». وكل هذا يدفع باتجاه الشعور بالغربة والانفصال عن الزمان والمكان من أجل تسريب هذه العواطف عبر قنوات تصبّ هناك في البؤرة المركزية للهوية «الأصلية»: البحرين قبل العام 1783م.

وبحسب عبدالوهاب المسيري فإن تزايد الشعور بالغربة والعزلة والانفصال يؤدي إلى «اعتماد عضو الجماعة الوظيفية على جماعته ليضمن بقاءه ووجوده واستمراره وهويته. فهو غريب في محيط معادٍ له يصعب عليه الاندماج فيه» (الجماعات اليهودية الوظيفية، ص43). ولهذا السبب يصبح حضور الجماعة مركزيا في حياة أعضائها، فهي البؤرة المرجعية التي تستقطب ولاءهم، ومن الطبيعي في حال كهذه أن يعيش هؤلاء في وضعية لا تسمح لهم بالتكيف مع محيط يفرض عليهم ولاء من نوع مغاير. ويبقى هؤلاء، في غالبية الأحيان، يقاومون الاندماج الكامل في المجتمعات التي يعيشون فيها. ويذكر المسيري، على سبيل التمثيل، أن هناك أقلية زرادشتية في الولايات المتحدة الأميركية، و «هي أقلية تشبه الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة في كثير من الوجوه، فهم يتمتعون بدرجة عالية من التعليم، وقد جرت علمنتهم ودمجهم وأمركتهم، لكنهم، مع هذا، يقاومون الاندماج ويتحدثون عن الهوية الزرادشتية المستقلة» (الجماعات اليهودية الوظيفية، ص35).

إلا أن الفرق بين زرادشتي الولايات المتحدة وشيعة البحرين، أن هؤلاء الأخيرين ليسوا أقلية في بلادهم، وأنهم ليسوا وافدين أو مستجلبين من الخارج، بل إن البحرين هي وطنهم «الأصلي»، وهم متجذّرون في أرضها وتاريخها منذ زمن بعيد. نعم، هناك أماكن مقدّسة لشيعة البحرين تقع في كربلاء والنجف، ومع هذا فإن هذه أماكن مقدّسة وحسب، وتحنّ إلى زيارتها نفوس هؤلاء، إلا أنها ليست «وطنا قوميا أو دينيا» بديلا عن «الوطن الأصلي» و «الوطن السياسي» الذي هو البؤرة التي تستقطب الولاء السياسي.

إلا أنه ينبغي أن نعترف بأن افتقاد البحرين إلى مرجعية دينية بحرينية جعل شيعة البحرين، في العصر الحديث، يتجهون بالولاء الديني إلى مرجعيات خارجية تعيش في النجف أو كربلاء أو قم أو لبنان. وهذا «ولاء ديني» نابع من مركزية المرجعية الدينية وفكرة التقليد لدى الشيعة، وهو يتجلى في حرص الشيعة على اتّباع فتوى مراجع التقليد في شئون العبادات والمعاملات. ولم يكن هذا النوع من ولاية الفقهاء الخاصة مثار اعتراض أو تخوّف أو قلق من قبل نظام الحكم في البحرين، بل إن أمير البلاد الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة قام «بزيارة النجف الأشرف بالعراق العام 1970 والتقى الزعيم الشيعي آية الله السيدمحسن الحكيم، وطلب منه حثّ شيعة البحرين للتصويت لصالح استقلال البحرين، ووعد باحترام حقوق الشيعة الدينية» (الشهابي، ص291). أقول إن هذا النوع من ولاية الفقهاء لم يكن مثار اعتراض أو تخوّف لأن المرجعية الشيعية قد انكفأت إلى موقف انعزالي يقوم على مبدأ عدم التدخل في الشئون السياسية، وهو الموقف الذي ظهر في أعقاب ثورة العشرين في العراق، حتى «اضطر بعض المجتهدين إلى التوقيع على تعهد بعدم التدخل بالشئون السياسية في العراق، بعد ثلاث سنوات من هزيمتهم العسكرية في ثورة العشرين. واتسعت الهزيمة حين انسحب موقف العلماء ذاك على الفترة التالية إذ أصبح التدخّل بالقضايا السياسية، في عرف الحوزة العلمية، من القضايا التي ينبغي الحذر منها. وانتشرت بحيث بات من الغريب أن يعمل أو يتدخّل مجتهد أو متدين بالسياسة، أو يدلي برأيه في قضية سياسية» (الدستور والبرلمان في الفكر الشيعي، ص154). إلا أن هذا الموقف تغيّر بعد قيام الثورة في إيران وتصدّي المرجعية الدينية للحكم وإدارة شئون «الأمة» السياسية، مما يعني أن «ولاية الفقيه» أصبحت عامة في العبادات والمعاملات والسياسة إذ صار الفقيه مرجعا دينيا للتقليد، وحاكما سياسيا و»قائدا أعلى للثورة» في الوقت ذاته. ومنذ هذا التحوّل صار ولاء شيعة البحرين السياسي موضع تشكيك دائم، وصار «ازدواج الولاء» والتشكيك في الولاء يتشاركان في تعميق الأزمة ودفعها إلى الأمام بقوة، إذ يزداد إحباط الشيعة وتذمرهم من استمرار هذا التشكيك، وفي الوقت ذاته يزداد السنة في البحرين خوفا وتوجّسا مما يسمى الأجندة الشيعية «الخفية» وارتباطاتها بالخارج.

وقد أسهم وضع الشيعة كونهم أقلية في الخليج في تفاقم أزمة الولاء، وخصوصا الولاء للمرجعية الدينية، وهو ولاء عابر للحدود الوطنية. وقد فُسِّر هذا النوع من الولاء على أنه ناسخ للولاء الوطني أو شريك له. في حين كان الأولى تفسيره في حدوده الطبيعية بوصفه ولاء دينيا، وإذا ما تجاوز هذا الولاء حدود الدين إلى الولاء السياسي، فعندئذٍ علينا أن نفهم هذا على أنه نتيجة لشعور شيعة الخليج بأنهم أقلية مهمّشة وتفتقر إلى حقوق المواطنة الكاملة. وبحسب تقرير منظمة الأزمات الدولية رقم (37)، فإن اتسام النشاط السياسي الشيعي بالطائفية (أي ارتباطه بالطائفة) يرجع إلى كون الشيعة يمثّلون أقلية إذا ما قيسوا بالإسلام السني، وهي أقلية تتعرّض للتهميش والتمييز وحتى الاضطهاد، الأمر الذي جعل معنى الطائفية لدى الشيعة يعني «الدفاع عن مصالح المجتمع الشيعي بالنسبة للسكان الآخرين وللدولة ذاتها» ().

وهذا يعني أن الوطنية هي نتيجة تلقائية لتمتع الفرد بحقوق المواطنة كاملة دون تمييز طائفي. وبتعبير جان جاك روسو فإنه «ليس هناك وطنية من دون حرية، ولا حرية من دون فضيلة، ولا فضيلة من دون مواطنين. اخلق مواطنين وستحصل على كل ما تريد، ومن دون هؤلاء المواطنين لن يكون لديك أي شيء باستثناء عبيد بلا قيمة» (Strong Democracy, P.213). وهذا يعني أنه لا وطنية من دون مواطنة كاملة الحقوق.

وعلى كل حال، فإن كل هذه الدلائل تعني أن الولاء صار أزمة تعيد إنتاج نفسها باستمرار، ومعضلة كبرى أمام التوافق داخل الدولة، سواء بتحويله إلى سلعة، أو بازدواجه بين الطائفة والوطن، أو بالتشكيك فيه. مما يعني أن مقاربة إشكالية «التوافق داخل الدولة» من دون تحرير الخلاف في معضلة الولاء ستكون مقاربة بلا قيمة وعديمة الجدوى. ونأمل أن تسهم مقالاتنا المقبلة ابتداء من الأسبوع المقبل في تحرير الخلاف بشأن هذه المعضلة.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/230681.html