العدد: 1883 | الخميس 01 نوفمبر 2007م الموافق 20 شوال 1428هـ
حاكمية العقل الجمعي وحقوق الإنسان (3)
يمكن لحكومة دينية - ديمقراطية أن تُؤَمِّن مستوى رفيعا من حقوق مواطنيها الإنسانية. ولكن لابد من الالتفات إلى النقاط الثلاث الآتية:
الأولى: إن البحث في حقوق الإنسان ليس بحثا دينيا أو فقهيا تماما، بل هو بحث كلامي - فلسفي. المهم أنه بحث سابق للدين، أي أنه مثل البحث في الحسن والقبح والجبر والاختيار والتوحيد والنبوة، مقدم على البحث في الفهم الديني وقبول الدين، ومن هذه الزاوية فهو مؤثر في فهم الدين وقبوله. بالنظر إلى كونه بحثا خارج إطار الدين، فإن القبول بمفهوم معين لحقوق الإنسان يترتب عليه قبول الدين الذي يقبل هذا المفهوم، كما أن رفض ذلك المفهوم يقود طبعا إلى رفض الصيغة الدينية التي ترتبط به. إن تقديم البحث في حقوق الإنسان على البحث في الدين سيقود إلى بحث فوق ديني يتحكم إلى حد كبير في تحديد الصيغة المقبولة من الدين. لو أخذنا مثال المتكلمين فإن كل رأي يختارونه في باب الحسن والقبح والجبر والاختيار، سيستعملونه ضرورة في فهم الدين، حتى إن آراءهم في هذا الباب قد تقود أحيانا إلى معرفة كلامية - بشأن الله والعقيدة - غريبة عن المعارف والأفهام السائدة والمألوفة.
كما أسلفنا، إن عدالة الدين وإنسانيته شرط للقبول به، بمعنى أن الدين الذي لا يهتم بالحقوق الإنسانية - ومن بينها الحاجة الإنسانية إلى الحرية والعدالة - لا يمكن قبوله.
بعبارة أخرى، لا يكفي أن يكون الدين حقا من الزاوية المنطقية، بل لابد له أن يكون حقا من الناحية الأخلاقية أيضا. ولهذا فإن البحث في حقوق الإنسان ليس بحثا تجميليا أو إضافيا كي نؤجله. وليس بحثا ملوثا بالكفر كي نستغني عن طرحه أو نعرض عن بحثه وشرحه، ولا هو من الأحكام الفرعية كي نبحثه في ضوء القواعد الفقهية المتعارفة، ثم نعرض الحكم الذي نرجحه له غير عابئين بالاحتجاجات العقلية والأخلاقية وفوق الدينية.
ينبغي ألاّ ننزلق إلى التوهم أن الفتاوى والأحكام الشرعية الفرعية في باب حقوق الإنسان يمكن استنباطها من المتون وأصول التشريع الأولية؛ ذلك أن الفقه متأثر بالتأسيس العقلي (الكلام) الذي يقوم عليه.
وينبغي أن تكون الأسس العقلية (المبادئ التي تقع خارج الدين) التي تقوم عليها الأحكام منقحة ومصححة، فمن دون ذلك لن تكون الأحكام ثابتة راسخة أو واضحة ومتناغمة. كما أنه ليس من السهل كشف عيوب الأسس العقلية من داخل المباحث الفقهية، بل لعل هذا التوجه يقود في نهاية المطاف إلى حصر التركيز على الداخل والعمل بناء على مقدمات غير متينة، فيشغل الباحث بالموضوع عن مجادلة المقدمات التي هي بمثابة مُسَلَّمات وفرضيات أولية سابقة عليه.
الثانية: تنشغل الحكومة الدينية بهموم داخل الدين، كما تنشغل الحكومة الديمقراطية بهموم خارج الدين. ولكي تكون الحكومة جامعة للجانبين - أي ديمقراطية دينية - فعليها أن تجمع بين هموم داخل الدين وهموم خارجه. وما لم تُؤَمِّن تعادلا وتفاعلا مقبولا عاقلا بين هذين الطرفين، فلن توفي بأيٍّ من الركنين، الديمقراطية أو الدين. أن تكون مهمومة هو أمر مختلف عن التسليم المحض. كلامنا لا يعني أن كل ما قاله المعاصرون في باب حقوق الإنسان هو عين الحق والعدل، أو أنه منزه عن النفاق والتزوير. ما نقوله هو إن المجتمعات الدينية - بحكم كونها دينية - محتاجة إلى مثل هذه الأبحاث.
وإذا كان حديث السابقين قد دار حول الجبر والاختيار وتكليف ما لا يطاق، ووجدت هذه النقاشات موافقين ومخالفين وكانت هذه النقاشات مقبولة ورائجة من قِبل المجتمع المسلم بدافع من غيرته على الدين، فإننا اليوم محتاجون - بالمقدار نفسه - إلى البحث فوق الديني بشأن حقوق الإنسان في المجتمع المسلم. ويجب أن نعتبر هذا البحث مباركا ومحترما وذا قيمة، وننظر إلى المدافعين والمنادين والعاملين فيه - من أجل رضا الله - بعين التكريم وتُقبل آراؤهم من جانب الحكومة وتأخذ طريقها إلى ميدان العمل والتطبيق.
إذا كانت إنسانية الدين شرطا لحقانيته، فإنها أيضا شرط لمشروعية الحكومة الدينية؛ ولهذا فإن مراعاة حقوق الإنسان (من قبيل الحرية والعدالة... إلخ) ليست فقط معيارا لديمقراطية الحكومة بل أيضا معيار لدينيتها.
الثالثة: القول إن الاهتمام بحقوق الإنسان هو مولود الليبرالية ينطوي على جهل بالليبرالية كما ينطوي على ظلم للدين؛ ذلك أن الليبرالية تتخذ مجلسا يتجاوز هذا المكان على حين يتخذ الدين مجلسا أدنى منه. لا الليبرالية تستوفي جميع حقوق الإنسان ولا الدين غريبا عن هذا المفهوم. صحيح أن البحث في حقوق الإنسان بالمعنى الجديد الذي نتداوله اليوم ظهر ابتداء بين أولئك الذين لا يلتزمون الدين ولا يهمهم إرضاء الخالق، أو لا ينظرون إلى الدين على كونه مصدرا للقيم والمعايير. ولهذا السبب فقد اقتصروا على المصادر غير الدينية في بحثهم. ولكن هذا شيء ودعوى أن حقوق الإنسان مولود لليبرالية وغريبة عن الدين شيء آخر.
نحن نعلم أن بعض المتدينين قد عارض مبادئ حقوق الإنسان، ولكن هذا الموقف قابل للتفهم والتبرير - على رغم أننا لا نقبله تماما -. ولعله يرجع إلى شعورهم بالاستغناء بالمنظومة الأخلاقية التي عندهم عن أية منظومة جديدة أو فلسفة للأخلاق مستحدثة. ولعلهم ظنوا أن الالتزام بمنظومة الواجبات والحقوق الدينية كفيل بصيانة جميع الحقوق التي قال بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. مثل هذا الاحتمال كان كافيا ربما لغض النظر عن البحث في فلسفة حقوق الإنسان الجديدة. نضيف إلى ذلك أن لغة الدين والفقه هي في الأساس لغة تكليف وليست لغة حق.
الشخص المتدين يفكر في تكاليفه قبل أن يفكر في حقوقه. وهو منشغل بما يريده الله منه قبل أن يهتم بما يريده هو. بعبارة أخرى، إنه يبدأ التأمل في الواجبات والتكاليف الملقاة على عاتقه، كي يتعرف من خلالها إلى حقوقه المفترضة، بدل أن ينظر في حقوقه كي يفرز منها وفي مقابلها واجباته. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتحدث عن واجبات مسبوقة بحقوق، على حين يتحدث الفقه عن تكاليف وواجبات تترتب عليها حقوق. هذا المفهوم قد يؤدي غالبا إلى تبريد حساسية الإنسان المتدين إزاء حقوقه مقارنة بالتكاليف والواجبات. ولكن هذا الأمر لا يتنافى بأية صورة مع الربط بين التدين ومراعاة حقوق الإنسان، ولا يدل أبدا على ما يدعيه البعض من تماثل بين مراعاة حقوق الإنسان والتسليم بالليبرالية.
تتلخص هذه المناقشة إذا في أن الحكومة الدينية - المنبعثة من المجتمع الديني والمعتمدة عليه - قادرة على التحول إلى ديمقراطية - دينية، ولكن هذا مشروط بتأمينها رضا المخلوقين مع رضا الخالق معا، ووفائها لخارج الدين وداخله معا، وعرفانها لحرمة العقل والأخلاق السابقة على الدين، بقدر عرفانها لحرمة العقل والأخلاق المسبوقة بالدين. ومع حفظ التوازن والتعادل بين الاثنين فسنحصل على تلك الكيمياء التي يعتبرها البشر - بسبب غفلتهم - غير قابلة للإيجاد أو غير مرادة.
*مفكر إسلامي إيراني
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/260418.html