العدد: 336 | الخميس 07 أغسطس 2003م الموافق 09 جمادى الآخرة 1424هـ

على رغم فاجعة «المقابر الجماعية»

أم الشهيد: مازال ابني على قيد الحياة!

تسيل دموعها كلما ذكرت قصة ابنها الشهيد... تركن في زاوية الحجرة وتنفرد بعالمها الخاص... تستأنس بتقليب الصور والصحف الكويتية التي تحدثت عن الأسرى في العراق.

هكذا هم أمهات الأسرى لا يصدقن ان المنية قد وافت أبناءهن... يغضضن الطرف عن المقابر الجماعية، ليسمعن نداء القلب وينصتن الى صوت الماضي الأليم.

تزوجت أم الشهيد حسين عيسى حسين بورقبة من بحريني الجنسية إلا انها عاشت في الكويت منذ العام 1962، ولم تظن أم الشهيد، ان شبح الخوف والألم سيهجم على حياتها يوما ما، لم تظن ان لحظات السعادة محدودة في حياتها وان المصير المجهول على الأبواب، لم تظن انها ستتحسر على ابنها المدلل، ولم تظن ان هذه الدولة الصغيرة (الكويت) ستبعث لها الويلات والمصائب.

في صبيحة ذلك اليوم المُغبر، اجتاحت القوات العراقية أراضي الكويت... نهبت القوات ما نهبته، وأسرت من أسرته، وقتلت من قتلته، وأراد القدر إلى حسين بورقبة أن يكون من ضمن الأسرى.

بعد اجتياح الكويت، اُسر زوج ابنة أم حسين، وقد كان عسكريا، ومن هنا بدأت المعاناة وبدأت قصص الحزن والفقد تتدافع بقوة على عائلة بورقبة.

أُحتجز زوج الابنة في زنزانة مقرفة، إلا إن الألطاف الإلهية أكبر من أية مشيئة أخرى، إذ أطلق سراحه إبان تحرير الكويت، وفي تلك اللحظات تضاعف أملها بالإفراج عن ابنها.

قصة الأسر...

بدأت قصة أسر حسين بورقبة عندما جاء إلى الكويت، ليطمئن على والدته وشقيقه وشقيقته المقيمين في الكويت، ولكن يبدو ان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، إذ إنه أضل الطريق وتوجه الى نقطة عراقية، وفي إجراء متوقع لدى الثكنات العسكرية وغير متوقع لدى العائلة المترقبة تم أسره في سجن الأحداث بالكويت.

«آه... هذه هي الرسالة التي بعثها إلينا قبل مجيئه الى الكويت» هذا ما قالته أم حسين وهي تتنهد، وأضافت: «بدأت القصة عندما اتصلت بنا أم زوج ابنتي لتخبرنا بمجيئه إلينا في غضون يوم أو يومين، ولكن (وبقدرة قادر) تحولت الأيام إلى شهور والشهور الى سنين ومازالت القصة مستمرة».

تمسح دموعها وتواصل «لم يكن بحوزة ابني أسلحة، أو ما يدل على الشبهة أثناء دخوله إلى الكويت، فلماذا يكون هكذا مصيره».

الزيارة الأولى

كُتب لقلبها أن يهدأ... واستطاعت أن تقابل ابنها في سجن الاحداث في العام 1990، وهناك رأت ما لا تتمنى أن تراه العين، إذ كُدس الأطفال والشباب والشيوخ في زنزانة واحدة، والجميع في حال يرثى لها، وكانت مكتظة بالأسرى بالقدر الذي يتعذر فيها التنفس والاستنشاق.

مر الوقت سريعا، وودعته بحضنها الدافئ ووعدته بان تزوره مرة أخرى.

الزيارة الثانية

ذهبت في العام ذاته 1990 لزيارة ابنها مرة أخرى، وهنا بدأت رحلة معاناة جديدة، إذ سألت عنه في سجن الأحداث فقيل لها: «لقد بعثنا به الى السعودية». لم تصدق كلامهم، بحثت في الأمر أكثر ولكن بلا جدوى. وفي هذه الأثناء انقطع عنه الاتصال ومازال منقطعا حتى اللحظة.

تحرير الكويت

بعد أن أطلق سراح بعض الأسرى إثر تحرير الكويت، قال أحد الاسرى المفرج عنهم لأم حسين : «أبنكم كان معي في السجن»، فتجدد الأمل في نفوس عائلة حسين المنكوبة، التي طرقت كل الأبواب، وتوجهت الى المسئولين، وأرسلت رسالة الى وزارة الخارجية، وأستمر تحركها الداخلي إلا انها لم تجد في كل ذلك أية نتيجة تُذكر.

من يساعد أم حسين؟

المفارقة ان لجنة شئون الأسرى الكويتية اعتبرت الشهيد من ضمن أسرى الكويت، واهتمت به، وأخذت تخبر ذويه عن آخر التطورات والمستجدات، على عكس الجهات الداخلية، التي انزعجت منها أسرة الشهيد واعتبرتها «غير مهتمة». وتقول أم حسين: «عندما عدنا إلى البحرين، وفروا لنا منزلا بعد 6 أشهر من قدومنا، وتدفع لنا الخدمة المدنية 200 دينار تُستنفذ في دفع الإيجار وفواتير الكهرباء والهاتف وحاجيات ومتطلبات الأسرة، ولكن الحمدلله على كل حال».

حالة أم حسين الصحية...

بدت مُرهقة، فقد أعياها الحزن والبكاء والقلق والترقب، وتعالجت عند الطبيب النفسي، وتعاني من أمراض مزمنة عدة وآلام في المفاصل، وكأنها أكبر من سنها بكثير.

شموخ الأمل

وعلى رغم توالي السنون فإن أملها مازال شامخا وصلبا ليبهر المراقبين، فعلى رغم رؤيتها بأم العين المقابر الجماعية في العراق، وعلى رغم بحثهم الحثيث بعد زوال النظام البعثي المخلوع في أروقة العراق، يبقى الأمل (من ناحية منطقية) ضعيفا، إلا ان لقلب الأم حسابات أخرى، ومعادلات لا تخضع لقوانين الأرض!

مازلت أتذكر...

مازلت أتذكر صوتها المتهدج المبحوح بلهجتها العامية «قلبي حاس إنه عايش». جلست الى جوارها... حدثتني وحدثتها... جلبت إليّ كل الصور والقصاصات ورسالة ابنها لهم قبل مجيئه الى الكويت، وصحيفة كويتية نشر فيها خبر عن تعرض ابنها للتجارب الكيماوية في السجن. مازلت أتذكر ابتسامتها الصفراء حينما قالت: «البنت التي كانت متعلقة بابني لم تتزوج بعد، ومازال أملها قويا برجوعه». عندما سقط النظام العراقي استبشرت اخيرا وغمرتها الفرحة وزينت غرفته بغرفة نوم جديدة يتوسطها سرير مريح وستائر خضراء تريح مقلتيه من الصور البشعة التي شاهدها في زنزانات النظام. ودعتُ أم حسين على أمل لقائها مجددا، عندما تلتقي بابنها الذي تعتبره «أسيرا»، وتعتبره نتائج البحث والتقصي «شهيدا». لوحت لي بيديها وبعينيها، وعلت قسماتها ابتسامة مشرقة، وعينان مبتلتان بالدموع


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/329703.html