العدد: 451 | الأحد 30 نوفمبر 2003م الموافق 05 شوال 1424هـ
وسط مخاوف من اندثارها...
حِرَف الآباء والأجداد... هل تقوى الأيدي الشابة على حمل إرثها؟
تفتح «الوسط» بهذا التحقيق جرحا مؤلما للكثيرين، فالحرف والصناعات التقليدية التي عمرت بها بلادنا البحرين، توضع اليوم على مشفر الجراح، فاما أن يقيِّض لها الله من يحميها ويعيدها سيرتها الأولى، واما أن تقتل وتقبر وتصبح في طي النسيان. فمن المشاهد أن هنالك حرفا لا يمارسها الا القليلون فضلا عن حرف لا يمارسها الا شخص واحد تموت بموته وتنتهي، ولكن هل نستطيع القول وبقوة ان في سواعد الشباب الفتي النجاة لهذه الحرف والصناعات من الغرق؟ كبار السن لا يرون ذلك وينحون باللائمة على الشباب لتهاونهم ولا مبالاتهم بتراث الأجداد، بينما الشباب، وبحسب ما يصفون واقعون في جملة من المصاعب التي تحجب كل فرد منهم عن أي اهتمام بهذه الحرف.
في التحقيق الآتي نرى ونتحسس آراء الجانبين، والمطلوب الخروج بصيغة توافقية، نستطيع من خلالها الخروج بنتائج للحفاظ ولو بصورة نسبية على هذا التراث البحريني العريق.
بداية، تقول أم سعود (هكذا فضلت أن ينشر اسمها)، هي امرأة بحرينية، عشقت النخل وتعلمت كيف تصنع من منتجاته أشياء جميلة مفيدة: «تعلمنا الشيء الكثير من سعف النخيل، وذلك منذ نعومة أظافرنا، لذلك باشرنا العمل فيه منذ الصغر، وفي أوقات متفرقة، ولكننا كنا نشكو أمورا كثيرة منها عدم التفرغ لمثل هذه الأعمال الجميلة، ثم جاء مركز الجسرة للحرفيين فجعل لنا مكانا فيه، نستطيع من خلاله العمل براحة وانشراح إذ الهدوء والراتب الشهري، وأستطيع القول إن هذا المركز وفر فرصا ممتازة لأمثالنا من السيدات اللاتي كن يبحثن عن مكان يظهرن فيه خبرتهن الطويلة في هذا المجال».
وتضيف سيدة سعيد، على كلام صديقتها أم سعود لتقول: «كانت أمهاتنا يرغمننا على هذه الأعمال ويلحن علينا في تعلمها، فهي بالفعل مفيدة ومسلية للمرأة، وخصوصا وأن المرأة البحرينية كانت في تلك الأوقات محجوزة في البيت ولا سبيل للفرجة لها الا في الالتقاء بالصديقات والجيران، إذ كانت أمهاتنا يجلسن مع بعضهن ويتحدثن وأيديهن لا تفارق سعف النخيل ونحن الفتيات الصغيرات وقتها كنا نقلدهن حتى استطعنا اتقان هذه الأعمال التي استطعنا من خلالها عمل السلال وسُفَر الطعام والشنط وأشياء كثيرة مفيدة».
وتعلق منيرة أحمد، على الكلام السابق بقولها: «لا يعني كلام الأخت سيدة، أن تعلم هذه الأشياء سهل، فالحقيقة غير ذلك، فإن تعلم هذه الأعمال يحتاج إلى الصبر وطول البال، فعمل بسيط منها يتكلف وقتا ودقة في الصنع، فليس بالمستغرب ألا يرغب فيها الشبان والشابات، فهذا زمن السرعة وشباب اليوم لا يستطيع الجلوس لساعة واحدة في البيت فكيف بصنع كل هذه المنتجات؟ فهي أعمال شاقة على الشباب وتحتاج إلى الصبر الطويل لتعلمها».
أما عبدالله فرحان، وهو صانع في مركز الجسرة للحرفيين، يشتغل على الأسل، فيذكر أن الحياة وصعوبتها فرضت تعلم هذه الأعمال: «الحياة بالأمس غيرها اليوم فقد كنا نقضي طوال اليوم من أجل بيزة أو بيزتين، ولم يكن لدينا غير البحر، لذلك توجهنا اليه بطاقتنا وحاولنا من خلاله الحصول على مصدر رزق آخر، لذلك تعلمنا كيفية الاستفادة من الخوص والسعف والأسل، الذي كان يتوافر كثيرا في بحر سماهيج والدير، وصنعنا منه الجفير والحيزة وكل ما يمكن الاستفادة منه في البحر، ولكن شباب اليوم لا يتعلمون كل هذه الأشياء فهم غير محتاجين اليها فمصادر الرزق كثيرة الآن».
ولكن سامي حرز المالود، الذي يعمل على صناعة الأدوات الموسيقية القديمة، يشير إلى عدم وجود الدافع النفسي الكبير لدى الشباب ليهتموا بتراثهم العريق، فيقول: لا بد من وجود الدافع الشخصي لكي يتقدم الانسان في هدف يسعى إليه ومن دون هذا الدافع لن يستطيع الشباب المحافظة على حِرَف الآباء، فأنا مثلا ولكوني فنانا شعبيا وصاحب فرقة موسيقية شعبية أتفهم تماما وأشعر بأهمية ما أقوم به من محافظة على الآلات الموسيقية التقليدية التي تشهد وللأسف انحسارا، لذلك ومن منطلق خوفي على هذا التراث البحريني الأصيل، تجدني أشد وأصر على ولدي لكي يتعلم هذه الحرفة، كما شد وأصر أبي علي لكي أتعلمها، فالاحساس والشعور بأن هناك تراثا موسيقيا أصيلا وبأن هناك حرفا يدوية سيطويها النسيان ان لم يباشر الشباب بالاهتمام بها، هو ما يدفع الشباب اليها ومن دون هذا الشعور لن يكون هناك تحرك فعلي من قبلهم.
ولكن الشباب كثيرا ما يشكون الأوضاع الصعبة التي تواجهة، ويتحدثون عن آمال كثيرة ورغبة كبيرة في الاهتمام بهذه الحرف، ولكن ظروف الحياة - بحسب قولهم - وعدم تأمين لقمة العيش هي أهم مشكلة تواجههم.
فها هو جمال كاظم، الذي يمتهن العمل على الصناديق المبيتة، يقول: «منذ ان تعلمت هذه الصنعة وأنا أشعر بأهميتها، فهي بالفعل تحفظ تراثا بحرينيا أصيلا، وأظن أن الشباب البحريني شباب واع ومدرك لأهمية هذه الحرف ويود تعلمها، ولكن هذه الحرف «لا تؤكل عيش»، والقليل من الشباب من يحظى بفرصة كالفرص التي حصلت عليها أنا وزملائي، فأنا أعمل هنا في مركز الجسرة للحرف، وأستطيع الابداع في عملي، ولا خوف عندي على مصدر رزقي، وأتصور أنه لو أتيحت الفرصة للشباب الآخرين فسيكونون على قدر المسئولية».
وكذلك حسين عبدالرحيم، وهو صانع للفخار، يذكر أن أهم ما يواجه الشباب في محاولتهم للاهتمام والمحافظة على هذه الحرف التقليدية اليدوية: «يتمثل في عدم وجود المال بالشكل الذي يجعلهم يستطيعون الانفراد بأعمالهم ومشروعاتهم الخاصة، فالحاصل أن الشاب الذي يملك الارادة والتصميم في تعلم هذه المهارات، غالبا ما يتراجع الا متى ما أحس بأن هناك جهة حكومية تدعمه وتقف إلى جانبه، وتوفر له مصدر دخل جيد، بل تقف معه في مشروعاته الخاصة التي يهدف منها إلى استمرار هذه الحرف العظيمة، فأنا مثلا لا أستطيع انشاء مصنع خاص بي لعمل الفخار، والسبب عدم توافر المال اللازم لمصنع يحتاج إلى أرض وفرن وعمال وغيرها، وأنا أراهن أنه متى توافر الدعم من قبل الحكومة لأمثال هذه المشروعات الخاصة الناجحة فسيقبل الكثير من الشباب عليها».
والحال لا يختلف كثيرا عند الشاب جعفر عبدالرضا، الذي يعمل على صناعة منتجات النسيج: «قبل عشر سنوات أو يزيد، كانت مصانع النسيج تقام على مساحة واسعة من قرية بني جمرة، اذ كانت المصانع تتعدى الثلاثين مصنعا، أما الآن فلا يوجد غير مصنع واحد فقط، والسبب تراجع سوق هذه الحرفة التي كانت في يوم من الأيام وجهة الكثيرين الذين كانوا يرون في منتجاتها بضاعة على أرقى مستويات الجودة، أما الآن فالبضاعة المستوردة ورخص سعرها يلغيان هذه البضاعة على رغم قوتها وطول مدة صلاحيتها، وهذا ما لا يدركه البحريني للأسف، فنحن نرى الاقبال على البضاعة المستوردة من قبل البحريني بينما نرى السائح الغربي يقبل على بضائعنا بل يرى أن سعرها منخفض لأنها في نظره تستحق الأكثر، أنا لا أنكر أن هناك من البحرينيين من تستهويه هذه الملابس ويتابعها، ولكن تبقى الغالبية وللأسف لا تولي اهتماما لها، فكيف للشاب البحريني مع كل هذه اللامبالاة بحرفة الآباء والأجداد ومع عدم الاهتمام الجدي بها وبمنتجاتها أن يتشجع ويهتم بها؟».
بينما يرى طارق أحمد، المشتغل على صناعة نماذج السفن الشراعية، أن حب الحرفة أكبر من أي شيء وعليه يجب المحافظة عليها: «لقد تشربت حب هذه الصناعة من أجدادي، إذ كانوا يمارسون صناعة السفن الشراعية، في كل من منطقة النعيم والمحرق، ولكن للأسف فإن هذه الصناعة لا تمارسها إلا أربع عائلات فقط، ما ينذر بانتهاء هذه الصناعة البحرينية العريقة، التي كانت في يوم من الأيام مفخرة بين دول الخليج العربية، فأسواقها قليلة وطلابها نادرون، ولولا هذا التوجه الذي توجهت به وزارة الاعلام مشكورة في المساهمة في احياء هذه الصناعة لاندثرت وتلاشت، فلا تزال هناك بقية من رمق من خلال ادارة العلاقات العامة بوزارة الاعلام ومن خلال الصناديق الخيرية والسفارات وغيرها من الجهات المعدودة. والحقيقة أن هنالك مشكلة في التعاطي مع هذه الحرفة، اذ لا بد من وجود الأسواق ومن التفرغ اليها، فاذا لم توجد الأسواق لن يكون هناك تفرغ لها، فبديهي إن مصدر الرزق وتأمينه يخلق عند الانسان راحة نفسية عظيمة تجعله يبدع أيما ابداع، ومن دون توافرها فلن يستطيع الخلق، والشباب أكثر من يعاني من هذه المشكلة، ولكنني أقول أيضا إن التعلل بلقمة العيش ليس مبررا أبدا لاهمال هذه الحرف، فعلينا نحن الشباب تقع مسئولية احيائها ويجب أن نكون على قدر المسئولية».
ولعلنا نجد في فاضل يحيى، الذي يمتهن مهنة صناعة النعال الرجالية، نموذجا مشرفا للشاب البحريني الذي استطاع عن طريق تعلم هذه الحرفة أن يكتسب مصدر دخل ثابت، يقول فاضل: «من المعروف تماما أن مجرد التفكير في الشيء وصعوبته يجعل الانسان لا يقبل على التعلم، لذلك أرى أن أهم أسباب القبول على الشيء محبته، فقد ظللت لمدة سنتين غير قادر على العمل بسبب حادث أقعدني فلم يكن أمامي غير اتقان حرفة ما أدفع بها العوز عن نفسي، فجربت في البداية اصلاح النعال ولكن نفسي عزت علي فتعلمت كيف أصنع النعال على الطراز القديم، وخصوصا أنني كنت أجربها بين لحظة وأخرى في سني عمري الماضية، وأنا الآن والحمد لله محترف فيها، وأريد أن أنبه الشباب إلى أن في أمثال هذه الحرف مصدر دخل جيد لهم وحل لبطالتهم».
وفي جولتنا استوقفتنا أعمال في غاية الروعة والجمال لفتيات اتخذن البيت معملا لهن لمزاولة حرف قديمة، ومنهن سوسن عطية التي أخرجت لنا مجموعة من الدمى الجميلة بمختلف الأشكال والأحجام، وقالت: «لا أستطيع منع نفسي من التفكير بجد في مآل هذه الحرفة الجميلة التي أمارسها كهواية منذ أن كنت صغيرة، إذ وجدت والدتي تصنع دمى على مستوى عال من الجمال والرشاقة، وكانت تخرجها كلها أيام الأعياد فتبيعها بسعر مرتفع، ومنها أخذت وتعلمت هذه الهواية التي تفننت فيها وجعلت لها صورة جديدة تستهوي الأطفال بقوة، فمن الضروري أن يكون في الدمية شيء ملفت للطفل، ولكن حتى الدمى التي تصنع على النمط القديم لايزال الأطفال يحبونها، بل ان بعض الروضات تطلبها باستمرار، وما يدفعني حقيقة للاهتمام بها هو احساسي الشخصي بأنه يمكن من خلال هذه الدمية بحركاتها وتقليدها للناس تقديم أشياء جميلة مسلية ومفيدة للطفل».
إلى ذلك تقول فاطمة خليل بتأثر: «أخشى ما أخشاه أن تتحول هذه الصناعات الجميلة في بلادنا إلى متحف لا غير، مع أنها حرف عريقة وذات مدخول جيد، بل انني أرى أنها أفضل بكثير من المنتجات التي تأتينا من الدول الآسيوية، وذلك متى توافرت الأيدي الماهرة القادرة على صنع الجمال، وأستطيع القول اني وزميلاتي على أهبة الاستعداد لعمل الكثير من أجل هذه الصناعات التقليدية ونحن على استعداد لتدريسها وتعليمها لكل فتاة تحب ذلك».
وهل لدى المجلس البلدي خطة للاهتمام بالجوانب التراثية المتعلقة بالحرف التقليدية؟ سؤال توجهنا به إلى عضو مجلس المحرق البلدي مجيد كريمي الذي أجاب: «خطط الاهتمام بالتراث البحريني بما فيها هذه الحرف التقليدية اليدوية الجميلة، خطط موجودة لدينا ونولي اهتماما كبيرا بها، ولكنها خطط على المدى الطويل ولكننا الآن بصدد الاهتمام ببيت بحريني قديم في سوق المحرق القديمة (...) هذا البيت نسعى إلى تحويله إلى متحف، وخصوصا وأن الكثيرين من أبناء المحرق قاموا بجهد تطوعي بتهيئته والاهتمام به ليكون بالشكل المطلوب، ونحن اذ نثمن لهؤلاء اهتمامهم ونشد على أيديهم سنسعى عن قريب إلى الاجتماع بهم ودراسة المشروع حتى يكون البيت بمثابة متحف يزوره الناس ليتعرفوا من خلاله على الحرف التقليدية البحرينية وذلك بسعر رمزي يساعدنا كثيرا في تحسينه، وستكون الأولوية طبعا للطاقات الشابة التي لديها هذا الميل والموهبة، في احتراف هذه الحرف التقليدية العريقة».
أما رئيس جمعية الاجتماعيين خلف أحمد خلف والذي ختمنا بكلامه هذا التحقيق، فيقول: ان العالم برمته أصبح شغله الشاغل الاهتمام بهذه الصناعات اليدوية وخصوصا في دول العالم الثالث، إذ يعتبرها الكثيرون الحل الأمثل للقضاء على مشكلة البطالة التي يعاني منها العالم أجمع، ونحن كاجتماعيين بحرينيين كثيرا ما أشرنا ونصحنا في اجتماعات المكتب التنفيذي لدول الخليج العربية بالاهتمام بها وملاحظتها، وهذا لا يتأتى في الواقع الا من خلال الاهتمام بثلاثة جوانب رئيسية، الأول ألا يكتفي الشباب بوراثة هذه الحرفة فقط وانما يجب عليهم تطويرها بما يتلاءم واحتياجات الانسان الحديثة حتى تكون لها سوق رائجة، فالكثير من الناس يستخدمونها للزينة ولكن هذا الأمر لا يكفي، الأمر الثاني أن تكون هناك صيغة تواصل بين جوانب العملية، فأناس يهيئون المواد اللازمة للحرفيين وأناس عليهم تسويقها، الأمر الثالث يتمثل في الدعم الذي لابد منه من قبل وزارة الاعلام في تدريب وتهيئة السبل للشباب للانخراط في هذه الحرف التقليدية.
فالشيء المؤلم حقيقة - والكلام لايزال لرئيس جمعية الاجتماعيين - هو أنه وبدلا من أن يكون هناك اهتمام جدي بالاستفادة من حرف الشعوب في تعلمها ومحاولة تنميتها، ترانا نهدي هذه الحرف التقليدية إلى الجاليات الأخرى التي تهتم بتعلمها والاستفادة منها والسبب راجع بالطبع إلى عدم وجود المردود المادي المغري، الذي يدفع الشباب إلى الاهتمام بها، وتلك مشكلة يجب التفكير في حلها بشكل جذري.
بالتأكيد لا يمكن لتحقيق ينشر في صحيفة يومية أن يؤتي أكله الا متى ما توافرت الارادة من قبل المسئولين والمعنيين بخلق فرص عمل للشباب من خلال هذه الحرف التقليدية، فنكون بذلك قد قضينا ولو بصورة نسبية على شبح البطالة، وحافظنا على تراث بحريني انساني عظيم
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/352318.html