العدد: 682 | الأحد 18 يوليو 2004م الموافق 30 جمادى الأولى 1425هـ
خصوصية العلاقة الألمانية الفلسطينية الإسرائيلية
برلين - الوسط
توجه وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر في الأسبوع الماضي إلى آسيا في مهمة ترمي إلى الحصول على تأييد بلدانها لمسعى بلاده في الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي. وكانت حكومة الائتلاف الاشتراكي الأخضر في برلين سعت بعد حصولها على السلطة في نهاية العام 1998 إلى المطالبة بمقعد دائم للاتحاد الأوروبي، لكن هذا المشروع واجه الفشل وأودع في الدرج لأجل غير مسمى لأن دول الاتحاد الأوروبي بعيدة كل البعد عن أن تتحدث بصوت واحد في مجال السياسة الخارجية عدا أن بريطانيا وفرنسا - اللتين تحوزان على مقعدين دائمين - لن تضحيا بهذه الخصوصية لمصلحة الاتحاد الأوروبي.
لكن قبل أن يتوجه فيشر التابع لحزب الخضر إلى آسيا زار منطقة الخليج وطلب في أبوظبي ومسقط دعم المسعى الألماني. لكن قبل أن تفكر الأطراف العربية بالتجاوب مع هذا المطلب يتعين عليها مراجعة جيدة لما يمكن أن يسفر عنه وجود طرف إضافي بعد الولايات المتحدة، أخذ على عاتقه مساندة «إسرائيل». إلا إذا تعهدت ألمانيا بأن تتبنى موقف الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بموقفها تجاه نزاع «الشرق الأوسط» وألا تستعمل حق الفيتو في مناهضة القرارات العربية ضد جرائم «إسرائيل» كما تفعل الولايات المتحدة بصورة معتادة.
إنها علاقات ذات نوعية خاصة تلك التي نشأت بين ألمانيا و«إسرائيل» منذ نشوئهما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتعود أسبابها كما هو معروف إلى جرائم النظام النازي بحق يهود أوروبا واضطهادهم، ما ساعد في هجرتهم إلى فلسطين. وكان يمكن أن تدخل فلسطين كعامل ثالث على هذه العلاقة بحكم الذنب الذي يتحمله الألمان أيضا تجاه الفلسطينيين لكن لم تجر مناقشات طيلة العقود التي مضت بشأن هذه العلاقة، وما حصل أن ألمانيا الشرقية ارتبطت بعلاقات وطيدة مع الفصائل الفلسطينية بحكم أنها حركة تحرر، بينما ظلت علاقات ألمانيا الغربية مع الجانب الفلسطيني متشنجة ولم يحصل أي اتصال مباشر مع القيادة الفلسطينية إلا بعد التوقيع بين منظمة التحرير الفلسطينية و«إسرائيل» على اتفاق أوسلو في سبتمبر/ أيلول العام 1993. أما اليوم وبعد أن طبع بنيامين نتنياهو وبعده ارييل شارون قبلة الموت على جبين اتفاق أوسلو وطبقا للخطوة التي أقدم عليها بوش عملا بشعار: السلام من دون عرفات، فإن ألمانيا انضمت إلى سائر حلفاء واشنطن الذين فرضوا مقاطعة على الرئيس الفلسطيني المنتخب. وحديثا زار برلين رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع إذ أجرى مشاورات بشأن العلاقات الفلسطينية الألمانية التي تقتصر حاليا على توفير الدعم المالي للسلطة الفلسطينية. وتقول برلين إنها تقدم هذا الدعم للفلسطينيين منعا لعدم انهيار مؤسسات السلطة وفلتان الأمور في المناطق الفلسطينية وخشية أن يسيطر (المتطرفون) على الساحة.
وتتباهى ألمانيا بأنها أكبر مانح للمساعدات للفلسطينيين بين دول الاتحاد الأوروبي وترفض الاتهامات التي توجهها إليها «إسرائيل» بين فينة وأخرى بأنها تدعم ما تصفه «إسرائيل» بالإرهاب، مشيرة إلى أن السلطة الفلسطينية التي دمرت «إسرائيل» كامل بنيتها التحتية تستخدم الأموال القادمة من الخارج في تمويل عمليات عسكرية ضدها، وهي اتهامات تفتقد حتى اليوم إلى أدلة واضحة. وكان احتلال «إسرائيل» لفلسطين وفرض سيطرتها العسكرية على كامل الأراضي التي احتلتها في العام 1976 زاد علاقات ألمانيا مع الفلسطينيين والعرب تعقيدا. وقاطعت دول عربية ألمانيا فترة من الزمن بسبب مساندتها لـ «إسرائيل». لكن السياسة الألمانية تجاه «الشرق الأوسط» بدأت تتبلور من خلال موقف دول المجموعة الأوروبية وفي العام 1980 صدر بيان البندقية الذي صدقت عليه ألمانيا ودعا لأول مرة إلى منح الفلسطينيين حق تقرير المصير واعتبر منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. لكن وزير الخارجية الألماني هانز ديتريش غينشر كان دعا قبل ستة أعوام عبر الأمم المتحدة إلى منح حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني لكن هذا الموقف لم يسفر عن تحسن العلاقات بين ألمانيا ومنظمة التحرير وظل غينشر يتحاشى لقاء عرفات في المؤتمرات الدولية. وأبرز لقاء تم بين عرفات ومسئول ألماني رفيع المستوى كان بين عرفات والمستشار فيلي برانت في فيينا وبتدخل من قبل المستشار النمسوي برونو كرايسكي الذي عنف برانت لأن الأخير كان حتى اللحظة الأخيرة يرفض مقابلة عرفات.
مارست ألمانيا سياسة الرقص على الحبال طيلة السنوات الماضية، إذ كانت تعلم أن ما يعترض مصالحها الاقتصادية في العالم العربي ليس عدم توافر حوار سياسي مع غالبية الدول العربية فحسب بل وقوفها المنحاز لـ «إسرائيل». على رغم حرص المستشار السابق هيلموت كول على قيام علاقات طبيعية بين بلاده و«إسرائيل» فإن الأخيرة مازالت حتى اليوم تصر على خصوصية هذه العلاقة وألا يجري دفن الماضي وأن يجري اطلاع الأجيال القادمة على جرائم النازية. ويرد الجانب الألماني آراء تجد أن مسعى «إسرائيل» في حصر العلاقات مع ألمانيا بجرائم النازية يرمي إلى ابتزاز الخزينة الألمانية. ولا تتردد ألمانيا بغض النظر عن الأحزاب التي تمسك السلطة في الاستجابة لمطالب «إسرائيل» بما فيها الأمنية. وكانت حكومة شرودر/ فيشر هي التي سمحت بتسليم البحرية الإسرائيلية ثلاث غواصات من طراز (الدلفين) التي زودها مهندسون إسرائيليون خلال رسوها في بحر الشمال لتصبح قادرة على نقل صواريخ رؤوسها محشوة بسلاح نووي لهدف ردع الدول العربية المجاورة. ورفضت الحكومة الألمانية حديثا طلبا مماثلا قدمه الإسرائيليون بحجة العجز الذي تعاني منه خزينة الدولة وقالت إنها مستعدة للموافقة على تصنيع الغواصات إذا تحملت «إسرائيل» نفقاتها.
ويلاحظ المراقبون كيف أن ألمانيا تجد صعوبة في التوفيق بسياستها، فمن جهة تقف سياسيا وعسكريا إلى جانب «إسرائيل» ومن جهة أخرى تحرص على تبني موقف أخلاقي وسياسي واقتصادي تجاه الفلسطينيين يحفظ لها مكانتها في العالم العربي ويتماشى مع وزنها كبلد أوروبي بارز. وكانت السياسة الألمانية تجاه «الشرق الأوسط» في عهدي المستشارين أدناور وإيرهارد يحكمها في المقام الأول مبدأ الالتزام الأخلاقي تجاه «إسرائيل». تطور هذا الموقف وازداد توازنا في وقت لاحق وإن ظلت ألمانيا حتى اليوم تحافظ على منح الأفضلية لمصالح «إسرائيل».
فيما كان الفلسطينيون في الماضي يعتبرون العاصمة الألمانية السابقة بون معقلا من أبرز معاقل الصهيونية في أوروبا الغربية، فإنهم غيّروا نظرتهم لألمانيا بعد توقيع اتفاق أوسلو التي كانت ألمانيا تأمل أن تقود إلى السلام المنشود. ثم أصيب الألمان أيضا بالإحباط نتيجة فشل هذه العملية، وشعر الفلسطينيون خصوصا بخيبة أمل كبيرة بعد أن تبنى يوشكا فيشر صديقهم السابق سياسة منحازة كليا لـ «إسرائيل»، وأصبح - ومازال إلى اليوم - يعمد كثيرا إلى تحميل الفلسطينيين مسئولية تصعيد العنف ويدين ما يسميه بالإرهاب الفلسطيني، فيما يستخدم تعبير الهجمات المضادة عندما يتحدث عن العمليات العسكرية التي تقوم بها «إسرائيل» ضد الفلسطينيين. وهذا وحده يشير إلى تحيز فيشر. وكان الكثيرون من الفلسطينيين سيقدرون لوزير الخارجية الألماني وسائق التاكسي السابق رؤيته النابعة من روح التوازن والعدل لو لم يعمد إلى التخفيف من وقع أعمال العنف الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وانتقاد هجمات الفلسطينيين ضد مدنيين إسرائيليين بما يتماشى مع محتواها ومفعولها. فقتل الأبرياء والاغتيال المتعمد للفلسطينيين من قبل «إسرائيل» يشكلان في نظر الكثير من المراقبين الدوليين وفي نظر غالبية أمم العالم انتهاكا للقانون الدولي ونمطا من أنماط إرهاب الدولة.
الفلسطينيون سبقوا العرب في فهم العلاقة الألمانية الإسرائيلية ويبحثون اليوم عن مكان لهم في إطار هذه العلاقة بحكم أنه لو لم تحصل محرقة اليهود لما تم تأسيس الدولة العبرية. إن المطلب المنصف للفلسطينيين أن تعاملهم ألمانيا بإنصاف وأن تنطبق على هذه العلاقة لغة الصواب السياسي وهم يعرفون حق المعرفة أنه لا يمكن تغيير العلاقة الخاصة القائمة بين ألمانيا و«إسرائيل»، ولكن ينبغي أن تستمر في إطار يشملهم ويجعل ألمانيا تعمل بصدقية أكبر مما يعزز فرصها بالحصول على أصوات الدول العربية وتحقيق هدفها باحتلال مقعد دائم في نادي الكبار
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/401228.html