العدد: 971 | الثلثاء 03 مايو 2005م الموافق 24 ربيع الاول 1426هـ
"المترجمة" في سينما السيف
حين يرتقي الفيلم السياسي - البوليسي إلى فلسفة اللغة
أصاب المخرج سدني بولاك حين اختار "المترجمة" كفكرة يقوم عليها فيلمه الأخير الذي يعرض حاليا في سينما السيف. فالمخرج بولاك عرف عنه أنه منتج سلسلة أفلام عن الواقعية السياسية ازدهرت واشتهرت منذ سبعينات القرن الماضي.
الآن يعود بولاك من جديد بفيلم سياسي يتسم بواقعية اختلطت فيها حزمة من القصص وتداخلت لترسم فكرة عن حالات تشهدها دولة إفريقية من خلال قصة "مترجمة" تعمل في اطار مؤسسة الأمم المتحدة في نيويورك.
الفكرة ذكية لانها نجحت في ربط مجموعة حلقات في سلسلة تريد ان تحاكي المشاهد من دون السقوط في لغة خطابية أو في فخ المطاردة البوليسية من دون معنى أو هدف.
فكرة "المترجمة" في أروقة الأمم المتحدة تلخص الحكاية. فهي ترمز إلى مجموعة اشارات ليست خافية على المشاهد اليقظ. فالفيلم لا يتحدث عن دولة إفريقية بعينها بل يثير مجموعة اسئلة تتعلق بسياسات ارتكبتها الدول الكبرى في تلك القارة الجميلة بطبيعتها والغنية بثرواتها ودفعت شعوبها ثمن حكومات فاسدة ارتكبت جرائم من دون محاسبة أو محاكمة.
دراما الفيلم حكت مأساة قارة من خلال قصة دولة صغيرة غير موجودة ولكنها تمثل حالة محددة عن نموذج انتشر في الكثير من البلدان خلال ثلاثة عقود امتدت منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي.
الفيلم ليس سياسيا وأنما يتحدث عن السياسة حين تتحول إلى ادوات ترتكب باسمها الجرائم ضد الشعوب وحرية الإنسان. والفيلم ليس بوليسيا وانما يتحدث عن ملاحقة شرطة نيويورك ومخابرات أميركا الملوثة بالدم لمجموعة ارهابية تعمل في المدينة وتريد اغتيال رئيس تلك الدولة الإفريقية خلال القاء خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
نجح بولاك في جمع كل عناصر الفيلم في دائرة محددة: المدينة ومسرحها قاعة الأمم المتحدة، والقاعة هي المسرح الذي يجمع شعوب العالم وجنسياته واقوامه والوانه وثقافاته وأنظمته المتعارضة في الشكل والجوهر. وأهم من كل تلك العناصر هناك اللغة. فالعالم يتحدث لغات وكل لغة لها طعمها ولونها وثقافتها وفلسفتها مهما كبر حجمها أو صغر.
اللغة إذا هي الشبكة التي تجمع خيوط الفيلم من خلال "المترجمة". والمترجمة هنا يمكن أن نفهم دورها المهني "وظيفتها" وهي نقل الكلام من لغة إلى أخرى. أو ترجمة الكلام من لغة مجهولة "غير مفهومة" إلى لغة معلومة "مفهومة". الا أن بولاك اراد ان يعطي صورة أخرى عن اللغة تتجاوز مهنة نقل الكلام. فاللغة حضارة وثقافة ومجموعة قيم وفلسفة ومعتقدات تجري في كلمات لا نعرف معناها وعمقها الإنساني والتوصيفي. فهي لغة تخاطب وايضا كلمات تختزن تجربة وتكشف علائق إنسانية بين مجموعة بشرية تعيش في مكان ما في منطقة تتوسط جنوب غرب إفريقيا.
ليس المهم هنا مكان الدولة ولا التاريخ الذي جرت فيه الوقائع التي يتحدث عنها الفيلم. المهم تلك اللغة التي تتحدث بها "المترجمة" وتنقلها من رواق مقفل في قاعة الشعوب في الأمم المتحدة. ففي هذه القاعة يتوحد العالم ويجتمع ويتحاور ويتناقش ويتخاطب... واللغة هي الجامع لتلك المتناقضات. و"المترجمة" هي تلك الوسيلة الناقلة للكلمات من لغة إلى أخرى.
توفق بولاك في اختيار فكرة "المترجمة" كاساس تجري فوقه ابنية الفيلم وحوادثه المتفرقة. فسيناريو الفيلم تتداخل فيه أكثر من قصة وتترافق من خلاله مجموعة صور متشابكة. فهناك الجانب البوليسي المشوق إذ تطارد مجموعة من الشرطة والمخابرات مجموعة ارهابية تريد اغتيال رئيس تلك الدولة الافريقية. وهناك الموضوع، رئيس دولة افريقية "قبيلة" وصل إلى الحكم قبل 32 سنة بشعارات تحريرية وانتهى به المطاف إلى ديكتاتور مستبد يعتمد سياسة القمع والقتل وارتكاب المجازر ضد المعارضة بذريعة انه يكافح الارهاب. وهناك "المترجمة" البيضاء التي تنتمي إلى تلك الدولة الافريقية ووقف أهلها إلى جانب هذا الزعيم الثوري. وسرعان ما انقلب على افكاره واغتال أسرتها "والدها، أمها، شقيقتها، وشقيقها" ولجأت هي إلى نيويورك لتعمل مترجمة في الأمم المتحدة. وبصفتها الشخص الوحيد الذي يعرف التعامل مع لغة هذه الدولة المجهولة انتدبت لتكون الوسيط بين الزائر والمجموعة الدولية.
كل عناصر هذه القصص المتداخلة ليست مهمة إذ يمكن أن نجد ما يحاكيها في عشرات الأفلام البوليسية السياسية. الجديد في الفيلم اكتشاف بولاك لذاك الرمز الجامع والموحد لخيوط شبكة القصص وهو تلك اللغة التي تتحكم بمفرداتها واستخداماتها "المترجمة".
فكرة اللغة أنقذت الفيلم من السقوط في فخ المطاردة البوليسية واعطته ذاك الجمال الخفي المتمثل في ثقافة اللغة وتعبيراتها ومعانيها وفلسفتها وما تحمله من اساطير تحتضن الحكمة وتقول الأمثلة وتبوح بتلك الاسرار المقفلة أو المغلقة على الفهم وخصوصا ابناء المدن الضخمة المشغولة بالمال والسلطة والمطاردة والملاحقة.
"المترجمة" اختراع جيد اختزل الكثير من الاشارات التي يريد ارسالها بولاك للمشاهد من خلال قصة بوليسية ترصد واقعية سياسية عن بلد إفريقي "موجود وغير موجود" ولكنه يكثف ذاك العالم الغائب عنا والموجود بيننا بجماله وعذوبته من دون ان نراه أو نكتشفه.
يعتمد فيلم "المترجمة" على المفارقات محاولا التلاعب بها من خلال صورة المترجمة البيضاء الفاتنة ذات الأصل الإفريقي. فهي إفريقية المولد "جنسية دولة مجهولة" وتتحدث لغة قبيلة غير معروفة في مجاهل نيويورك واروقة الأمم المتحدة... وهي بيضاء اللون تمزقها الرغبة في الانتقام والثأر لاسرتها وشعبها مقابل رغبة مضادة تحاول الانتماء إلى عالم يعتمد الدبلوماسية في حل المشكلات الإنسانية. انها مفارقات اللون والانتماء إلى لغة وثقافة وشعب، ومفارقات الانتماء إلى تاريخ والالتزام بوظيفة "مترجمة" في مركز دبلوماسي دولي اكتشفت مصادفة محاولة اغتيال لرئيس دولة تتهمه بقتل أسرتها.
فيلم "المترجمة" هو محاولة للتحدث عن اللغات وما تختزنه من مفارقات بين جهل بكلماتها وما تحمله مفرداتها من حس وجمال وثقافة وحكمة تتراوح مجالاتها بين الفلسفة والأسطورة.
حاول سيدني بولاك نقل واقعيته السياسية التي اشتهر بها من قصة حصلت ذات مرة إلى رمز يحصل دائما وينتهي إلى فراق بين ضفتي نهر "كابيلا" على أمل "وعد" أن يلتقيا من جديد. واختيار بولاك اللغة "المترجمة" لذاك الرمز كان في غاية التوفيق لأنه نقل السياسة من حقل مطاردة بوليسية إلى حقل أرقى: المعرفة
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/461275.html