العدد: 999 | الثلثاء 31 مايو 2005م الموافق 22 ربيع الثاني 1426هـ

"مملكة الجنة" ...

عودة جريئة لسكوت... ورسالة تقول: "القدس للجميع، فاتركوها بسلام"

كثير من النقاد لم يعجبهم الفيلم الأخير لمخرج الأعمال الملحمية المبدع ريدلي سكوت الذي قدمه تحت اسم مملكة الجنة Kingdom of Heaven، وأكثر منهم من وجد في مادة الفيلم إساءة بالغة للمسلمين أو للمسيحيين، بل ان النقاد والصحافيين "الغربيين خصوصا" صدعوا رؤوسنا قبل عرض الفيلم بأسئلتهم عما يمكن أن يثيره هذا الفيلم لدى المسلمين، وظننا جميعا أن سكوت سيفجر قنبلة تمتلئ عنصرية وكرها وإهانة للإسلام والمسلمين، الأمر الذي جعل كثيرين منا يعيشون حال توتر وترقب انتظارا للفيلم حتى فعلت سينما الدانة خيرا حين لم تتأخر في عمل ذلك في موعد إنزاله نفسه في صالات العرض الأميركية والأوربية.

الآن وبعد مشاهدته يمكنني القول أن الفيلم يستحق كل الجدل الذي أثير حوله، ولكني أؤكد أن معظم ما قيل لم يكن يعبر عن حقيقة الفيلم أو الرسالة المقصود إيصالها من وراء هذه القصة التي يعود سكوت من خلالها بعد توقف عامين في قالب اعتاده المشاهد منه عبر أفلام مثل Black Hawk Down و Gladiator وإن كان الفرق بين هذين الفيلمين كبيرا فالأول هو فيلم إثارة سياسي يضع يده على بعض حساسيات المجتمع الأميركي، والثاني يقدم دراما تاريخية تمتلئ إثارة وتشويقا، ولكنهما في النهاية يصبان في قالب واحد هو قالب أفلام الإثارة التي تناقش قضايا تثير حساسية البعض ويجبن كثيرون عن طرحها أو التصدي لها.

سكوت يعود ليناقش من خلال فيلمه الجديد "مملكة الجنة" واحدة من أشد القضايا حساسية على المستوى العالمي، مستعرضا بجرأة لم يسبقه إليها أحد الخلفية التاريخية للصراع الإسلامي المسيحي على القدس، وهو صراع أزلي لايزال يقسم العالمين المسيحي والإسلامي، ويفرق - كما يشير المخرج - بين أتباع الديانات الثلاث.

وليضع سكوت يده على هذه القضية يستعرض قصة باليان "أورلاندو بلوم"، الشاب الفرنسي الذي يعمل حدادا والذي يأخذه قدره إلى القدس"أورشليم" ليجعل منه قائد جيوشها، وليضعه القدر نفسه في موقف يقرر فيه تسليم القدس طوعا لصلاح الدين الأيوبي قائد جيوش المسلمين.

باليان يقدم القدس هدية للجيش المسلم مفضلا المحافظة على أرواح أهلها، وإن كان الثمن تشريدهم في بقاع الأرض وتركهم "الجمل بما حمل" لصلاح الدين وجنوده، وهو بذلك حقق انتصارا معنويا إلى حد ما على من أجبر لأن يكون خصمه وأقصد بذلك صلاح الدين "الفنان السوري غسان مسعود"، فالأخير أراد اقتحام المدينة مهما كلفه الأمر، فقط للدفاع عن قوافل حجاج المسلمين الذين يقتلون على أيدي كارهي السلام ومحبي الفتنة والدمار، أما باليان الشاب الصغير ذو الخبرة القليلة فقد ارتأى أن يكون بطلا من نوع مختلف حين رفض حربا لم تكن حربه وأبى الدفاع عن إهانة لم تقدم له بل وجهت لمن هم ليسوا موجودين بين الحضور، وذلك كما جاء في مشهد الخطبة التي ألقاها على أهالي المدينة قبيل المعركة.

رفض باليان الحرب ووافق صلاح الدين على الصلح وإنهاء حرب لم تكن من أجل هيبة أي دين كما أراد المخرج أن يقول وكما وضع ذلك على لسان أبطاله، فالحرب لم يكن لها سوى هدف واحد هو الرغبة في النفوذ وفي إرضاء الاطماع البشرية ليس إلا، أما وصفها بالحرب المقدسة فهو ما أراد سكوت نفيه بطريقة مباشرة أو بغير ذلك.

سكوت أراد أن يقول من خلال فيلمه ان صلاح الدين الأيوبي لم يكن راغبا في الحرب، وكذلك لم يكن خصومه، وان المعسكرين "المسلم والمسيحي" لم يرغبا في إراقة الدماء وانهما أرادا الحياة ورفضا الموت، ولكن المتطرفين على الجانبين هم من أرادوا ذلك، وهم من رغبوا في حرق الأخضر واليابس من أجل اطماع لا علاقة لها بأية نزعات أو ميول دينية بل برغبات بشرية شيطانية. وسكوت لا يكتفي بذلك بل يؤكد أن صلاح الدين كان قائدا شديد المراس، حكيما، محنكا، و... مغرورا إلى حد ما، أما خصمه قائد جيوش القدس باليان فقد كان قليل الخبرة شديد الحنكة، شجاعا، متواضعا، ومقاتلا شرسا، دافع عن القدس وبعدها عقد مع صلاح الدين اتفاقا سلم من خلاله المدينة للمسلمين ثم تركها وشرد أهلها في بقاع الأرض... حفاظا على الأرواح البشرية.

وعلى رغم مشاهد القتل والدمار التي ينقلها الفيلم والتي أحدثها جيش المسلمين في المدينة وأهلها، يؤكد سكوت أن صلاح الدين لم يخطئ، وكذلك لم يكن باليان، كان الاثنان على حق في كل ردود أفعالهما، وكانت كل قراراتهما سليمة تتسم بالحكمة. لم يكن جدنا الأكبر صلاح الدين عدوا لملك القدس المسيحي أو لقائد جيوشه المسيحي أيضا أو لشعبه من المسيح أو اليهود، ولكنه كره كل من سولت لهم أنفسهم قتل الأبرياء وترويعهم من العرب والمسلمين، وفي المقابل لم يكن باليان قائد جيوش القدس يحمل أي عداء أو كراهية تجاه العرب والمسلمين. كلا القائدين قدم الكثير وتنازل عما هو أكثر... من أجل إنسان تلك الأرض، وكلاهما قاتل حتى النهاية لتعيش الإنسانية وليبقى الصفاء والحب، وكلاهما ساوم من أجل القدس للوصول الى أفضل تسوية ممكنة.

عودة سكوت جريئة، وخطوته ذكية وغير مسبوقة، وفيلمه وإن حوى بعض الأخطاء التفصيلية الصغيرة في بعض مشاهد الصلاة مثلا، فإن ما يحسب له هو أنه أول مخرج هوليوودي يطرح صورة العربي المسلم طرحا مختلفا بعيدا عن الصورة الهمجية المشوهة التي اعتاد عليها جمهور هوليوود. كذلك فإن تفكير هذا المخرج الانجليزي كان صائبا حين ابتعد عن كل ما هو مثير للحساسيات الدينية، مرجعا أسباب الحروب الصليبية إلى اطماع بعض المتطرفين من الجانبين، مقدما صورة البطل المسيحي على أنه شاب لم تأخذه إلى القدس دوافع دينية بل الرغبة في حياة جديدة بعيدة عن دياره التي يعيش فيها الناس آنذاك "القرن الثاني عشر بعد الميلاد، تحديدا العام 4811" ظروفا معيشية قاسية كما فقد فيها أعز أحبابه هما ابنه، وزوجته، التي ارتكب من أجلها جريمة قتل راح ضحيتها رجل دين فصل رأس الزوجة عن جسدها بعد إقدامها على الانتحار لمقتل ابنها، إيمانا منه بأنها مطرودة من رحمة الله. باليان في وسط هذه الظلمة كان مقتنعا إلى حد كبير بأنه هو الآخر غير قريب من الله ومطرود من رحمته، ولذلك هاجر إلى القدس من أجل حياة جديدة في أرض تمتلئ بالفرص، وذلك امتثالا منه لنصيحة والده السير غودفري "ليام نيسون"، قائد جيوش الملك الذي عاد للتو من إحدى حروبه في الشرق الأوسط باحثا عن ابنه غير الشرعي "باليان" مقدما حياته ثمنا للدفاع عن هذا الابن.

وليس ذلك فحسب بل إن سكوت ضمن حواراته بعض العبارات التي تبدو مأخوذة بشكل مباشر من كثير من عبارات وردت على لسان بعض المتطرفين، كعبارة قتل الكفار التي تعد طريقا إلى السماء، والتي جاءت في الفيلم على لسان بعض المتشددين من المسيحيين.

هي رسالة إذا أراد سكوت إيصالها، رسالة تصلح لكل العصور ما دام أساسها وهو النزاع على القدس باق ولا تبدو له في الأفق نهاية وليس أدل على ذلك من آخر مشهد في الفيلم وهو ذلك الذي يظهر فيه الملك الانجليزي تشارترد قلب الأسد باحثا عن باليان طالبا منه المشاركة في حربه ضد المسلمين لاستعادة القدس في حرب لم ولن تنتهي. سكوت أراد أن يقول "وبحيادية غير متوقعة من هوليوود، وإن لم تكن كاملة، إلا أنها في رأيي أقصى ما يمكن تقديمه اليوم" أراد أن يقول: لا تلقوا اللوم على الأديان، اتركوها جانبا، فاطماع الجانبين هي السبب، احقنوا دماء البشر مسلمين كانوا أم مسيحيين أم يهودا، واتركوا القدس بسلام


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/466860.html