العدد: 1065 | الجمعة 05 أغسطس 2005م الموافق 29 جمادى الآخرة 1426هـ

"الوسط" تتحدث إلى اثنين من الناجين من القنبلة النووية...

ستون عاما على تدمير هيروشيما

حلقت طائرة بي - 29 الاميركية على مدينة هيروشيما اليابانية قبل ستين عاما وألقت أول قنبلة نووية على البشرية وقضت في خلال ثوان على 140 ألف انسان ودمرت مدينة بكاملها، ولم يسلم منها إلا جزء من احد المباني . ومنذ صباح السادس من اغسطس / آب 1945 وحتى العامين المقبلين لم يعرف اليابانيون تبعة ما ألقي عليهم لأن الإنسانية لم تكن بعد عرفت معنى الاشعاع النووي.

القنبلة التي القيت على هيروشيما اليابانية لم تنفجر بصورة كاملة، ومقدار ما تفجر كان يقارب كيلو غراما واحدا من مادة اليورانيوم ، ولكن الآثار مازالت باقية حتى يومنا هذا. واليوم تستذكر اليابان تلك اللحظات في تجمعات ولقاءات عامة.

"الوسط" تحدثت مع اثنين من الناجين، احدهما نجا بأعجوبة بعد ان انسلخ جلده وهو يتوجه الى الجامعة في الساعة الثامنة والربع من صباح ذلك اليوم، وبعد ان أغمي عليه وفقد الوعي لمدة عام واحد. كان عمره عشرين عاما، وهو اليوم يحمل علاجه معه ويحتاج الى الرعاية الصحية المتطورة التي ابقته على قيد الحياة.

الناجية الأخرى كان عمرها ثمانية اعوام وكانت في قرية تبعد كيلومترين ونصف الكيلو عن مركز المدينة، وكان منزلها خلف هضبة حمتها من الاشعاع النووي. ولكنها كانت تستقبل الجرحى الذين يطلبون الماء من شدة العطش، ولكن ما إن يشربوا الماء حتى يلاقوا حتفهم. اما والدها فقد انشغل لفترة طويلة جدا في حرق جثث الضحايا بحسب عقيدة "الشنتو".

من الدمار الشامل الى العمران والنهضة المتصاعدة لمدينة دمرتها القنبلة النووية، ولكن تصميم أهلها على تحدي الصعاب نقلها الى عصر آخر، أكثر تطورا وأكثر انسانية.

من جانب آخر، كشف استطلاع للرأي في أميركا نشرت نتائجه أمس عن أنه مازال غالبية الأميركيين يعتقدون ان إلقاء القنبلة على هيروشيما كان إجراء صحيحا.

وأوضح الاستطلاع الذى أجرته مؤسسة "جالوب" الأميركية ان نسبة 75 في المئة من الأميركيين موافقون على استخدام هذا النوع من السلاح وهي تقل بنسبة 2 في المئة بالمقارنة لاستطلاع مماثل أجري في العام ،1995 وإن كانت أعلى بالمقارنة لنتائج استطلاع أجري في مطلع تسعينات القرن الماضي.


بعد ستين عاما على قنبلة هيروشيما...

سيبوي: لو كانت لدينا صحافة حرة لما كنت جريحا من قنبلة نووية

هيروشيما "اليابان" - منصور الجمري

السادس من أغسطس/ آب من هذا العام يصادف الذكرى الستين لإلقاء القنبلة النووية على مدينة هيروشيما اليابانية التي أودت بحياة 140 ألف إنسان، وأدخلت العالم في مرحلة مختلفة عما سبقها بعد أن طورت الولايات المتحدة الأميركية أخطر سلاح للدمار الشامل وجربته مباشرة على اليابانيين. فبعد هيروشيما، شنت أميركا غارة نووية أخرى على مدينة "ناغاساكي" اليابانية في 9 أغسطس وقضت على نحو 90 ألف إنسان، ثم أعلن امبراطور اليابان استسلام بلاده في 15 أغسطس ،1945 واحتلت أميركا اليابان مع وصول القائد العسكري "دوغلاس ماك آرثر" في 30 أغسطس ليحكمها عسكريا لمدة 6 سنوات قبل أن تتسلم حكومة يابانية جديدة السيادة بعد إعادة صوغ النظام السياسي وكتابة دستور جديد.

قبل الاحتفال بالذكرى الستين كنت قد زرت هيروشيما والتقيت باثنين من الذين نجوا من القنبلة، أحدهما بأعجوبة، لأن كل من معه تقريبا قد قضى عليهم الإشعاع النووي. والزائر للمدينة لا يمكنه ان يعرف انها تعرضت لقنبلة نووية، لأنه، وفيما عدا مبنى واحد مازال قائما بعد القنبلة، فإن المدينة أعيد تشييدها وزراعتها وتطويرها لتصبح واحدة من أحدث المدن اليابانية من جميع النواحي.

موقع الانفجار تحول إلى حديقة عامة ونصب تذكاري كتب عليه اسماء الضحايا، مع نصب تذكاري لطفلة اسمها "ساداكو" نجت بأعجوبة ولكنها توفيت بعد 10 سنوات من القنبلة وكانت حياتها مملوءة بالنشاط والأمل حتى آخر لحظة، ما أثر كثيرا في كل من تابع حياتها. متحف المدينة يروي قصتها مع الصور وبقايا وآثار القنبلة النووية، ومشاهد يصعب تصديقها لأنها تحكي عن انسلاخ جلود الذين كانوا في المناطق القريبة من القنبلة، وهناك صورة مؤثرة لأثر شخص "يقال انه امرأة" كانت قد جلست على سلم عند مدخل لإحدى المباني، ولكنها اختفت ولم يبق إلا اثر جسمها في المكان الذي كانت تجلس عليه.

اليابانيون يتذكرون الكثير عن القنبلة النووية، والأكثرية وضعوا تلك الذكريات في أرشيف الإنسانية. ولكن، هناك من لم ينس أي شيء من القنبلة وآثارها، وهناك من يتحرك نحو السلام في العالم، وهناك من يتحرك باتجاه مختلف. ففي 27 يوليو/ تموز الماضي ألقت الشرطة في هيروشيما على شاب ياباني عاطل عن العمل "وهو من الذين التحقوا بأحد الأحزاب اليمينية المتطرفة" بعد أن قام بإزالة كلمة من النصب التذكاري التي تقول: "باننا لن نكرر هذا الخطأ". والشاب الياباني الذي سلم نفسه للشرطة، قال: "اننا لم نخطأ في شيء، والذين أخطأوا هم الأميركان، وهم الذين يجب ان لا يكرروا أخطاءهم".

الذكرى على لسان من عاش كل لحظة منها ربما هي الأقرب إلى فهم ما حدث، ولذلك كان لـ "الوسط" وبقي طريح الفراش لمدة العام واحد بين الحياة والموت، ولقاء من امرأة رأت القنبلة ولكنها لم تصب لأنها كانت في قرية على بعد كيلومترين ونصف كيلومتر وكانت تقع خلف هضبة منعت الإشعاع من الوصول إليها.

سيبوي وأغورا

سيناو سيبوي كان عمره 20 عاما في ،1945 كان يدرس هندسة الطيران في الجامعة وكان متجها نحو جامعته عندما رمى الأميركان القنبلة النووية.

كايكو أغورا كان عمرها 8 أعوام، وكانت في منزلها الواقع في قرية صغيرة خلف هضبة تقع على كيلومترين ونصف كيلومتر من المكان الذي وقعت عليه القنبلة النووية.

الاثنان لديهما قصص عدة، ولكن سيبوي الذي بلغ عمره الثمانيين تعتبر نجاته معجزة، فعندما تدخل متحف القنبلة النووية ستجد صورة نادرة جدا التقطها أحد الأشخاص لمجموعة من اليابانيين وهم يزحفون هربا من الإشعاع النووي... أحد أولئك الأشخاص الذين التقطتهم الصورة كان سيبوي وهو في حال يرثى لها وقريب من الموت... يقول سيبوي لـ "الوسط": "من تلك المجموعة التي التقطت لها الصورة لم ينجو إلا أنا والمصور فقط، وحتى نجاتي كان معجزة ولقد كتبت على الأرض التي التقطتها الصورة "هنا مات سيبوي" وكان هدفي ان يتعرف علي الآخرون لاحقا بأنني أحد الضحايا. ولكن القدر شاء ان أعيش بعد ذلك، وان أحمل أمراضي الكثيرة التي اصابتني بسبب تعرضي للإشعاع حتى هذا اليوم".

أما أغورا فقد كانت مع والدتها في منزلها الواقع خلف الهضبة، وفجأة سمعت بدوي انفجار هائل، تقول: "كنت مع والدتي وقد اعتقدنا ان القنبلة وقعت على منزلنا، واعتقد الجميع بأن القنبلة وقعت على منازلهم لشدتها ولأننا لم نسمع بصوت مثلها من قبل. وكانت أمي تقول ان الأميركان رموا علينا ألف قنبلة دفعة واحدة، بعدها صعدت على الهضبة ولم أر شيئا سوى أننا جميعا داخل الجو المظلم "المشروم" الذي تحدثه القنبلة بعد إلقائها... ولكن كل يوم كنت أصعد لأرى ان المدينة دمرت بالكامل وأرى الحرائق مشتعلة وأرى الناس تهرب نحونا والكل يصرخ "أريد ماء وكانت جلودهم متسلخة... وكنت أراهم يصلون إلى منطقتنا ثم يموتون... كنت أعطي بعضهم الماء، ولكن والدي منعني من ذلك لأن الماء يقضي على المصابين بالإشعاع، ولقد شعرت لسنوات طويلة بالحزن لأنني أعطيت اثنين من المصابين ماء ومات مباشرة بعد أن شربا الماء".

تقول أغورا: "كان والدي من الرجال القلائل الموجودين في المنطقة وقد أخذ على عاتقه حرق جثث الموتى بعد إجراء مراسم بحسب ديانة "الشنتو"... وكانت المدخنة تعمل باستمرار وكنت أنظر إلى المدخنة يوميا، وكلما رأيت الدخان يرتفع منها عرفت ان والدي مازال حيا ومازال يقوم بدوره تجاه الموتى".

تواصل أغورا "بعد أن احتل الأميركان المدينة بعد عدة أسابيع من رمي القنبلة هربت مع أمي إلى أماكن بعيدة، لأن والدتي خافت علي إذ ان الأحاديث آنذاك كانت تتداول عن اغتصاب الفتيات من قبل الجنود، ولذلك هربت إلى فترة ولم أعد إلى المدينة إلا بعد أن اطمأننا على عرضنا. وصلت المدينة ووجدت الجنود الأميركان يوزعون الشوكولاته على الأطفال وكنا نشعر بالجوع الشديد، لأن الأوضاع انهارت ولم تعد هناك وسائل معيشية للحياة اليومية".

القنبلة النووية

قبل المواصلة في اللقاء نعود قليلا إلى إلقاء القنبلة النووية، ففي الساعة الثامنة والربع من صباح السادس من أغسطس 1945 ألقيت أول قنبلة نووية عرفتها البشرية على ارتفاع 580 مترا في مركز مدينة هيورشيما اليابانية... وفي غمضة عين تحولت مدينة عامرة إلى خراب شامل لم يسلم منها إلا مبنى واحد أوشبه مبنى... وقضى نحو 140 ألف إنسان حياتهم، وكثير منهم اختفى أثره بصورة كاملة. الإشعاع النووي دخل في أجسام الكثيرين واخترق التربة الأرضية.

في العام 1938 اكتشف العلماء الألمان إمكان شطر ذرة معدن "اليورانيوم 235" أو "البلوتينيوم 239" وان هذا الانشطار يؤدي إلى خروج "نيترون" يشطر ذرة أخرى، وهكذا تزداد عدد الانشطارات وينتج عن ذلك إشعاع شديد الحرارة يمكن ان يستخدم من أجل الدمار الشامل.

عدد من العلماء اليهود الذين هربوا من المانيا "ومن بينهم البرت آنيشتاين" كتبوا رسالة إلى الرئيس الأميركي فرانلكين روزفلت يحثونه على استباق الألمان في تصنيع القنبلة النووية. وافقت الإدارة الأميركية وصرفت ملياري دولار خلال ثلاث سنوات من البحث والتطوير.

وفي 12 سبتمبر/ أيلول 1944 اجتمع الرئيس الأميركي روزفلت مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل واتفقا على إلقاء القنبلة على اليابان لتركيعها وإنهاء قوتها العسكرية وإخضاعها لشروط الحلفاء.

وفي 16 يوليو 1945 تم تجريب القنبلة النووية في الصحراء الأميركية في نيو مكسيكو، وفي 25 يوليو من العام ذاته أصدرت وزارة الحرب الأميركية قرارا باستخدام القنبلة ضد اليابان لتركيعها "بعد أن استسلمت ألمانيا في 7 مايو/ أيار 1945". وهكذا جاء السادس من أغسطس 1945 عندما ألقت طائرة أميركية من نوع "بي - 29" أول قنبلة نووية كان وزنها أربعة أطنان واحتوت على "يورانيوم - 235" وزنه ما بين 10 إلى 30 كيلوغراما، يعتقد العلماء ان كيلوغراما واحدا فقط قد انفجر ومسح مدينة بكاملها، كما يعتقد العلماء بأن هذا الكيلوغرام الواحد من اليورانيوم - 235 عادل نحو خمسة عشر ألف طن من مادة الـ "تي. إن. تي" شديدة الانفجار.

من ذكريات أغورا

"أغورا" ذات الثماني سنوات لم تذهب إلى المدرسة في 6 أغسطس ،1945 وكان ذلك السبب في نجاتها. تقول لـ "الوسط": قال لي والدي ذلك اليوم "لا أشعر بالارتياح هذا اليوم ولا أريدك ان تذهبي إلى المدرسة". تواصل "لكنني بكيت لأن صديقاتي سيغلبنني وسيتقدمن علي في واجبات ذلك اليوم، إلا ان والدي أجبرني على عدم الذهاب". وتواصل القول...

بعد ذلك، سمعنا صفارة الإنذار قبل ساعة من انفجار القنبلة، ولكننا كنا قد تعودنا على صفارة الإنذار ولم نهتم إليها. فقد تعودنا على تحليق طائرة بي - 29 خلال أيام كثيرة قبل الانفجار، وكان الأميركان يرمون مواد لا تنفجر، وكنا نضحك ونقول ماذا جرى للأميركان؟ ولكن علمنا بعد القنبلة انهم كانوا يجربون رميها على الجسر الذي يربط شرق المدينة بغربها "جسر ايوئي".

أغورا البالغ عمرها حاليا 68 عاما تتذكر كل التفاصيل وتقول انها لم تكن تتحدث عن القنبلة لسنوات طويلة، ولكنها في السنوات الأخيرة بدأت نشاطها من أجل السلام في العالم ولذلك فإنها بدأت تتحدث عما جرى...

في الثامنة والربع من صباح الاثنين "6 أغسطس" انفجرت القنبلة واهتزت جميع منازلنا وخرجنا منها معتقدين ان القنبلة وقعت علينا. خرجت من المنزل وكنت محاطة بدخان أسود كثيف لا استطيع رؤية شيء، إذ نحن داخل ما يسمى بكرة الدخان "المشروم" التي تغطي المنطقة...

جاء إلى المنزل أخي وقال انه رأى القنبلة تقع على مركز المدينة، وان المدينة دمرت بالكامل كان منزلنا خلف هضبة على بعد كيلومترين ونصف كيلومتر، ولذلك لم تصبنا الحرارة القاتلة. والدتي صرخت بأن الأميركان رموا علينا ألف قنبلة كبيرة، إذ لم نكن نعرف شيئا اسمه قنبلة نووية ولم يعرف أهل المدينة ما رمي عليهم إلا بعد فترة طويلة جدا ربما بعد 1947 بعد أن قام الأميركان بافتتاح مركز لإجراء الفحوصات على الناس. كانوا يفحصوننا ولكن لم يكونوا يعطونا أي دواء، ولم نكن نعرف لماذا. بعد ذلك عرفنا انهم كانوا يبحثون عن الأشخاص الذين تحتوي أجسامهم على إشعاع نووي.

المدينة فيها سبعة أنهر، واللاجئون بدأوا يصلون إلى منطقتنا وهم يموتون ويقولون ان الأنهر مملوءة بالجثث. الجلود كانت مسلوخة، وكانوا صامتين عاجزين عن الحديث إلا من ترديد احتياجهم للماء. وهذه أول مرة أقولها لأي شخص "متحدثة إلى "الوسط""...

فقد سقيت اثنين من الجرحى ماء وبعد أن شرب مات... وأخبرني والدي لاحقا أن احذر من إعطاء الماء لأي جريح لأنهم يموتون بعد ذلك. وكانت الكوابيس والأحلام تراودني لسنوات طويلة جدا، وفي كل مرة أحلم بأنني أسقي احدا ماء ثم يموت أمامي.

بعد أن استسلمت اليابان في نهاية أغسطس 1945 أخذتني والدتي وهربنا إلى أماكن بعيدة لكي لا يرانا الجنود الأميركان، لأن الناس كانوا يقولون انهم يغتصبون النساء ويقتلون الرجال.

عدنا إلى المدينة لاحقا، وكما ذكرت، فقد كان الجنود الأميركان يوزعون الشوكولاته على الأطفال الذين كانوا يتجمعون حولهم من شدة الجوع آنذاك. الأميركان بدأوا في إدارة شئون المدينة وبدأت الأمور تتفجر لاحقا.

وقيل لنا ان الزرع لن ينبت في المدينة لمدة 75 سنة بعد القنبلة، ولكن كما ترى فإن المدينة تحتوي على أفضل الحدائق، وهذه الأشجار تبرعت بها مدن يابانية وأميركية، وكان هناك تصميم من الجميع لإعادة هيروشيما إلى وضع أفضل من السابق، وهو ما تراه أمامك.

"الوسط" سألت أغورا إذا كانت تكره الأميركان، فقالت: "ما الفائدة من الحقد؟ فقد كانت الأحقاد هي السبب في الحرب والدمار، ان علينا ان نتعاون من أجل ان يعيش كل الناس بأمن وسلام ورفاهية".

وفيما إذا كانت شاهدت حالات اغتصاب بعد الحرب، قالت: "لم اسمع عن حالات اغتصاب، ولكن كانت هناك سوق للدعارة قد نشأت بعد الحرب مباشرة، وبعد فترة من ذلك كانت هناك ولادات لأطفال غير شرعيين كثر، وكان المجتمع الياباني يضطهدهم ويميز ضدهم وخصوصا إذا كان نصفهم أسود "من الجنود الأميركان السود"... وكنت عندما بلغت الثانية عشرة من العمر أذهب مع بعض الطالبات إلى حضانة مخصصة لهؤلاء الأطفال، وكنا نرعاهم ونشفق عليهم، واعتقد انهم تم توزيعهم خارج المدينة، ولا أدري إلى أين... ولكن لم يكن بإمكانهم الاستمرار مع التمييز ضدهم على رغم انه لا ذنب لهم أساسا".

سيبوي ينجو بمعجزة

سيناو سيبوي وصل عمره 80 عاما... وعندما انفجرت القنبلة النووية كان في طريقه إلى الجامعة التي لم يبق منها أحد ممن كان داخلها... وبعكس أغورا التي تتمتع بصحة جيدة، فإن سيبوي يحمل معه عقاقير طبية متنوعة لعلاج قلبه وحالته الصحية التي تحتاج إلى رعاية مستمرة وعلاج طبي متطور، سيبوي عانى كثيرا بعد إصابته، ولم يستطع الزواج بسهولة لأن المجتمع لا يرحم المصابين... وزوجته أيضا من المصابات، ولكن إصرارهما على الزواج وتهديدهما عائلتهما بالهرب إذا لم يسمحا لهما بذلك نتج عنه زواج سعيد وثلاثة من الأبناء بصحة جيدة وسبعة أحفاد بصحة جيدة أيضا. ولكن قصته مع القنبلة النووية مثيرة جدا. قبل ان التقي بسيبوئي زرت المتحف وشاهدت إحدى الصور، وقالت لي المترجمة "وهي تؤشر على أحد الأشخاص في الصورة": "هذا هو الشخص الذي ستقابله بعد زيارتك للمتحف".

الصورة مؤلمة جدا، فهي لمجموعة من الناس الذين يقتربون من الموت التقطت بعد فترة وجيزة من إلقاء القنبلة عندما تمكنت هذه المجموعة من الهرب باتجاه المناطق القريبة، ولكنها وصلت إلى مكان تحتاج إلى مساعدة. وكان هناك مصور هرع لتصوير الحدث، وهو الذي التقط الصورة.

يتحدث سيبوي وصلت إلى هذا المكان وعلمت ان نهايتي قد اقتربت، فكتبت على الأرض "هنا مات سيبوي". رميت بنفسي لأنني ومنذ ان أصبت في صباح ذلك اليوم وانا احاول الهرب وجلدي ينسلخ مني، كنت على بعد كيلومتر واحد من موقع الانفجار، وفجأة رأيت ضوءا ساطعا شديد البياض، وانفجارا هائلا رماني على مسافة عشرة أمتار من مكاني. انتبهت بعد إغماء لفترة وجيزة، ولكن الدنيا كانت كلها ظلاما من حولي ولا استطيع ان أرى أي شيء... جلدي بدأ يتهدل من أعلى رأسي إلى أخمص القدمين، ولكني بدأت أمشي وأمشي لمدة ثلاث ساعات حتى وصلت إلى المكان الذي وجدت فيه المصور.

بعد أن كتبت عبارة تتحدث عن موتي في تلك البقعة فقدت الوعي... وبعد فترة جاءت بالقرب منا شاحنة عسكرية وبدأوا يحملون الجرحى الشباب.

"مقاطعا..." لماذا الشباب فقط؟

لأن الإدارة العسكرية كانت تقول لهم ذلك، ولأن الشباب يمكن إرسالهم إلى القتال بعد ذلك. أخذنا العسكريون "نحن الشباب" إلى المرفأ، وكنت أشعر بالحنق عليهم لأنهم كانوا يتركون النساء والأطفال لكي يموتوا من دون علاج. بعض أولئك الجرحى كانوا مملوئين بالزجاج لأن المباني التي دمرت كانت قد أرسلت بزجاج نوافذها إلى أجسام الناس. لقد رأيت اناسا يحترقون ويرمون أنفسهم في النهر، والأنهر كانت مملوءة بالجثث.

أخذني العسكر إلى المرفأ وكانت هناك لديهم مبان موزعة، وأحد المباني كان مخصصا للميئوس منهم، وكنت أحد أولئك، فرموني لكي أموت في المبنى، وكنا جثثا على بعضنا بعضا... عندما رموني هناك اتمشى علي ولا أعلم ماذا حصل بي ولم أعلم بأي شيء إلا بعد عام واحد. ولذلك خلال عام واحد منذ دخولي ذلك المبنى فإن القصة روتها لي والدتي التي انقذتني ولولاها لما كنت عشت حتى هذا اليوم.

قالت لي والدتي انها عندما عرفت بأمر القنبلة خرجت مذعورة تبحث عني في كل مكان. وعندما علمت ان هناك جرحى في المرفأ جاءت إلى المرفأ وهي تصرخ باسمي وتسأل كل شخص عني... وتقول انها دخلت مبنى الميئوس منهم وكانت تقلب الجثث وتصرخ، ولكنها لم تعرفني لأنني كنت مسلوخ الجلد ومشوه الجسم فخرجت من المبنى. ولكنها عادت وصرخت عاليا ولمرات عدة باسمي "سيبوي... سيبوي... سيبوي". تقول انها رأت يدي تتحرك على رغم انني لا أعلم ذلك ولم أعرف انني رفعت يدي، بعدها هرعت تجاهي وفحصتني وتعرفت علي وأخذتني إلى المنزل وظلت تعالجني وتجلب لي الأطباء وتأخذني إلى المستشفى لمدة عام كامل، ولم أصح إلا بعد عام. بعد عام من ذلك بدأت "أحبي"، ثم أمشي بصورة معوقة، وبعدها بفترة غير قصيرة عدت إلى المشي مرة أخرى، ولكني مملوء بالأمراض وتعرضت عدة مرات لسكتة قلبية...

"الوسط" سألته: كم يوما بحثت عنك والدتك؟

- سيبوي: أخبرتني والدتي انها بحثت عني لمدة ثمانية أيام. وقالت لي انه عندما نقلتني إلى المنزل كان الأطباء يقولون لها بين فترة وأخرى: "ابنك سيموت اليوم"، ولكنها كانت تستمر في علاجي حتى أفقت من غيبوبتي...

"الوسط": ومتى أفقت من غيبوبتك؟

- سيبوي: في 12 أغسطس ،1946 بعد عام كامل من إصابتي. وبقيت لمدة 12 سنة اتعالج من الإشعاع، واصابني السرطان مرتين، ومرات كثيرة تأتي سيارة الإسعاف إلى منزلي بعد أن أصاب بسكتة قلبية، ولدي فقر شديد في الدم، ويجب علي ان اتناول خمسة أنواع من العقاقير والأدوية يوميا، وأذهب إلى المستشفى للعلاج بالإبرة... أعيش مع الآلم واحتاج إلى العلاج المستمر يوميا حتى آخر يوم في حياتي.

"الوسط": هل تود ان تكون لليابان قدرة نووية حاليا لردع من يفكر في ضربها مرة أخرى؟

- سيبوي: لا... أبدا... انا ضد ذلك، ونحن جرحى القنبلة النووية نطالب بالتخلص من جميع أسلحة الدمار الشامل، لا نريد لشعب آخر ولا نريد لأي إنسان ان يحصل له ما حصل لنا... ما حصل لنا أمر فظيع لا يمكن شرحه، ولا يمكن لأحد ان يعرف فظاعته إلا إذا جربه... واننا لا نريد لأحد ان يجربه أبدا.

"الوسط": ولكن هناك دول الآن لديها قدرة نووية وهي قريبة منكم، قيل كوريا الشمالية والصين، وأيضا هناك الهند وباكستان...؟

- سيبوي: اننا ضد امتلاك سلاح نووي في أية جهة كانت. هناك دول مثل الهند وباكستان ولديها الآن قنابل نووية، ربما هي صغيرة ومحدودة، ولكن لو ان اليابان قررت ان تمتلك سلاحا نوويا، فإن قدرتها التكنولوجية والاقتصادية ستغير شيئا يفوق ذلك بمئات وآلاف المرات، ولذلك فإننا ضد أي اتجاه يقول بضرورة امتلاك هذا البلد أو ذاك سلاحا نوويا، أنظر إلى قنبلة هيروشيما استخدمت اليورانيوم وانفجر منه شيء قليل "كليوغرام واحد"، وقنبلة ناغاساكي استخدمت البلوتونيوم وانفجر منه شيء قليل أيضا، ولكن انظر ماذا حصل في بلادنا، وانظر إلى المعاناة التي نمر بها بعد ستين عاما من انفجار قنبلة صغيرة... ماذا سيحدث للعالم فيما لو - لا سمح الله - انفجرت القنابل التي تعادل قوتها آلاف المرات ويمكن إرسالها إلى أهدافها بدقة وعبر وسائل متعددة... ماذا سيبقى من الإنسانية بعد ذلك؟

ان قنبلة واحدة من القنابل الحالية ستهلك الملايين وليس الآلاف... ولذلك فإننا جرحى الحرب النووية نقول: "توقفوا عن إنتاج السلاح النووي وانسوا الأحقاد...".

"الوسط": هل مات أحد من عائلتك في الحرب العالمية الثانية؟

- سيبوي: أخي كان جنديا وأرسلوه إلى "بابواي نيو غيني"، وهناك دخل الجيش الياباني إلى الغابات في بلد لا يعرفونها، وقام الحلفاء "الأميركان والبريطانيون والاستراليون" بقطع الإمدادات عن الجيش الياباني وقضى نحو 220 ألف جندي ياباني حتفهم في الغابات بسبب انتشار الملاريا والجوع وبسبب القصب عليهم. لقد كانت حكومتنا تكذب علينا وتقول لنا اننا نحقق الانتصارات، بينما خسرنا في "بابواي نيو غيني" رجالنا وحصدهم المرض قبل ان تحصدهم القنابل... انه الإعلام المضلل، وأنت كصحافي - يجب عليك ان تقول الحقيقة للناس... لا تقبلوا بالتضليل، انظر ماذا فعل بنا تضليل الحكومة اليابانية؟ لو كانت هناك صحافة حرة ولو كانت هناك ديمقراطية لما دخلنا حربا من هذا النوع من الأساس.

لقد كان الإعلام الياباني يخدع الناس ولم نكن نعلم ما يجري حولنا... ان عليكم مسئولية كإعلاميين بأن تقولوا الحقيقة حتى لو كانت مرة، ولو كان هناك من يقول الحقيقة لما أصبحت جريحا بسبب قنبلة نووية ترمى علي بينما كنت متجها للدراسة في الجامعة.

"الوسط": ماذا تعمل الآن؟

- سيبوي: بالإضافة إلى نشاطي من أجل السلام، فأنا مدرس رياضيات، وسعيد بمهنتي وأشعر ان الحياة جميلة من خلال ترابط الناس وتعاونهم من أجل الخير، وهي السعادة التي اتمناها لكل الناس


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/484688.html