العدد: 3216 | الإثنين 27 يونيو 2011م الموافق 25 رجب 1432هـ

مقاطع من كتاب «في حضرة الغياب» لمحمود درويش (2 - 3)

عشت، لأن يداً إلهية حملتك من عين العاصفة إلى واد غير ذي زرع. وعشت في منزلة الصفر، أو أقل وأكثر. عشت عصيّ القلب، قصيّ الالتفات إلى ما يوجع ويجعل الوجع جهة، وإلى ما يرجع من صدى أجراس تضع المكان على أهبة السفر: من هنا مرّت الغجريات المصابات بحمّى الرقص والإغواء. علّقن سراويلهن على أغصان الشجر وارتدين العري المتخفّي في رشاقة الحركة. على الخيال وحده أن يرى فضيحة العُري في إيمان الفن بذاته المتمنعة عن الإفصاح. فالغجريات الماهرات بدسّ البرق في عظام المشاهدين، هنّ هنّ القادرات على ستر العري بضوء يسطع من نهود ترشح حبيبات ماء يضحك.

في كل ولد غجرية. وفي كل غجرية سفر مرتجل. وفي كل سفر حكاية ولا تُروى إلاّ بعد اجتياز الذكرى سنّ الخجل من أصحابها. ألهذا حملت الغجر معك كلما افترق المكان عن زمانه، وكلما تشرّد المكان في سُكّانه الباحثين عنه في ما تبقى من روائح هي الدليل على حسّية الروح؟ ألهذا بحثت في النساء الغريبات عن فوضى الجسد في شهوة الغجريات الراقصات على حبال الريح، واصطحبت المعنى الخالي من الزركشة، في الحب، إلى آخر العبث؟

وعشت، لأن يداً إلهية أنقذتك من حادثة. عشت في كل مكان كمسافر في قاعة انتظار في مطار يُرسلك، كبريد جوّي، إلى مطار... عابراً عابراً بين اختلاط الهُنا بالهناك، وزائراً متحرراً من واجبات التأكد من أي شيء. هكذا مرّت الغجريات على حقل أيامك البعيدة، في طريقهن الشريد من الهند إلى ما يرد على حاسة التيه من هواجس بلا خرائط وهويات... جميلات وبائسات وراقصات بلا سبب، سوى ما للدم الساخن من نسب إلى الإيقاع. هُنّ هُنّ، سرب خيام مهاجرة إلى مغامرة قد يجدن فيها كفاف حياة في متناول اليد. ولا يودّعن شيئاً لئلا يحزن، فالحزن مهنة لا تليق بهنّ، فهنّ الحزينات منذ وُلِدن. ويرقصن كي لا يمُتن. ويتركن الأمس وراءهن حفنة من رماد موقد موقت. ولا يفكرن بالغد لئلا يعكّر التوقع صفو الارتجال. اليوم اليوم هو الزمن كله. فاحذر طريق الغجريات، لأنه لا يوصل إلى أي هدف.

وعشت، لأن كثيراً من الرصاص الطائش مرّ من بين ذراعيك ورجليك ولم يصبك في قلبك، كما لم يَشُجّ حجر طائش رأسك. وعشت لأن سائق الشاحنة انتبه في اللحظة الأخيرة إلى ولد يصرخ بين مؤخرة الشاحنة وبين الجدار الذي تلتصق به. وعشت، لأن سائق سيارة رأى في الظلام قميصاً أبيض واقفاً على حافة الشارع، فأنقدك من خطر الليل وأعادك إلى الأهل المشغولين بتقليب الافتراضات على جمر الخوف. وعشت، لأن ضوء القمر اخترق الماء وأضاء صخوراً مدببة أقنعتك بأن الموت سيكون مؤلماً لو قفزت من تلك الصخرة إلى البحر، لا سباحة في مياه الأبدية.

وعشت، من دون أن تعرف كيف تصوغ كلمات الشكر البسيطة: حمداً للحياة حمداً. ولم تسأل إلاّ متأخراً: كم مرة متّ ولم أنتبه؟ وكلما متّ وانتبهت التهمت الحياة كحبة خوخ، فلا وقت طويلاً للخوف من المجهول ما دامت الحياة، وهي أنثى، مشغولة عن الموتى بتجديد صباها وفجورها وتقواها، على مرأى من المحرومين.

تجلس في مطعم المطار في ركن قصيّ، وتفكّر في جدوى الرحلة: هل أنا في ذهاب أم إياب. لا أحد ينتظر في الذهاب ولا سبب يدعوني إلى الإياب. لي أكثر من اسم وأكثر من تاريخ ميلاد في جوازات سفر جليلة الأغلفة، حمراء وزرقاء وخضراء. وحرٌّ أنا في هذا الزحام المسافر، وآمن كبضائع الحوانيت المعفاة من الجمارك، ومحروس بأجهزة الإنذار الإلكترونية. لا أحد يسألني من أنت ولا أحد يلتفت إلى مشيتي المتلعثمة، وإلى الزر المقطوع في معطفي، وإلى بقعة الزيت على قميصي. كأني شخص هارب من إحدى الروايات المعروضة في كشك الصحف، هارب من المؤلف والقارئ والبائع. وفي وسعي أن أضيف وأن أحذف وأن أعدّل وأن أبدّل وأن أقتُل وأن أُقتَل وأن أمشي وأن أجلس وأن أطير وأن أصير ما أريد وأن أحبّ وأن أكره وأن أعلو وأن أهبط وأن أسقط من أعالي الجبال ولا أصاب بسوء لأني لا أعتدي على حقوق المؤلف، ولي في المصائر، أعني مصائري، وجهة نظر أخرى.

لم ينهك أحدٌ في المطار عن الإفراط في الخروج من انضباط المؤلف، فاسترسلت في طرق المعلوم على فولاذ المجهول، فتطاير شَرَرُ الممكن من خيال كلما ضاقت عليه الجدران شعّ كبلّور مكسور في مجاز السجين. فرأيت إلى نفسك في المطار التالي شخصاً غير مرغوب فيه، لافتقار الوثائق إلى فقه الربط بين الجغرافيا وأسمائها: فمن وُلِدَ في بلد لا يوجد.. لا يوجد هو أيضاً. وإن قلت مجازاً إنك من لا مكان قيل لك: لا مكان للامكان هناك. وإن قلت له، لموظف الجوازات، اللامكان هو المنفى، أجابك: لا وقت لدينا للبلاغة؛ فاذهب إذا كنت تحبّ البلاغة إلى لا مكان آخر.

ورأيت إلى نفسك في مطار ثالث ورابع وعاشر تشرح لموظفين لا مبالين درساً في التاريخ المعاصر عن شعب النكبة الموزع بين المنافي والاحتلال، من دون أن يفهموك وأن يمنحوك إذناً بالدخول. ورأيت إلى نفسك في شريط سينمائي طويل تروي على رسلك ما حلّ بأهلك مسروقي اللسان، والقمح والبيت والبرهان... منذ هبطت عليهم جرّافة التاريخ العملاقة وجرفتهم من مكانهم وسوّت المكان على مقاس أسطورة مدجّجة بالسلاح وبالمقدّس. من لم يكن آنئذ في الأسطورة لن يكون الآن. وتساءلت: هل من جلاّد مقدس؟ ورأيت إلى نفسك تكمل ما تيسّر لك من عمرك، بلا مؤرخين ومؤلفين في المطار المزدحم بالمسرعين إلى مواعيدهم التجارية والغرامية.

وأنت المُفرَغ من لقاء أو وداع، تجلس على المقعد الجلدي وتنام. وتستيقظ لأن مسافراً مستعجلاً تعثّر بك واعتذر من دون أن ينظر إليك. تمضي إلى الحمّام وتغسل ثيابك الداخلية وجوربيك وتحلق ذقنك، ثم تتوجه إلى الكافيتيريا لتحتسي فنجان قهوة، وتبحث في الصحف عن آخر أخبارك: هل من بلد يقبل بي؟ فلا تجد فيها، في الصحف، إلاّ أخباراً مُفَصّلة عن الحروب والزلازل والفيضانات. لعل الله غاضب على مايفعل البشر بالأرض! لعل الأرض حبلى بالقيامة!

ما معنى أن يحيا إنسان في المطار؟ تهجس: لو كنت مكاني لكتبت مديحاً لحريتي في المطار: أنا والذبابة حُرّان/ أُختي الذبابة تحنو عليّ/ تحطّ على كتفي ويدي/ وتُذكّرني بالكتابة/ ثم تطير. وأكتب سطراً:

كأن المطار بلاد لمن لا بلاد له/ وتعود الذبابة بعد قليل/ وتمحو الرتابة، ثم تطير تطير تطير/ ولا أستطيع الحديث إلى أحد/ أين أختي الذبابة، أين أنا؟

ترى إلى نفسك في شريط سينمائي تحدق إلى امرأة تجلس في الركن المقابل لك في الكافتيريا. وحين تراك وأنت تراها تتشاغل بتنظيف قميصك من قطرة نبيذ، وقعت ككلمة شاردة من عبارة كنت ستقولها لها لو كانت معك: جمالك هذا كثير عليّ كسماء، فارفعي السماء قليلاً لأتمكن من الكلام. ترفع عينيك عن صحن الحساء الساخن، فتراها تراك، لكنها سرعان ما تتشاغل برش الملح على طعمها بيد يرتجف عليها الضوء، فتخاطبها في سرك: لو كنت مثلي ممنوعة من الخروج، لو كنت مثلي! تشعر بأنك أحرجتها، فتتظاهر بأنك تخاطب النادل: لا، عفواً. لؤلؤة من عرق تلمع في جيدها المرفوع للثناء، فتقول لها في سرك: لو كنت معك للحست حبة العرق. الرغبة ماثلة واضحة كالصحن، كالشوكة والملعقة والسكين، كزجاجة الماء، كالشرشف، وكأرجل الطاولة. والهواء معطر. تلتقي النظرتان وتشعران بالحرج فتفترقان. هي تحتسي جرعة من كأس النبيذ الذي ذابت فيه اللؤلؤة. وأنت تشعر بأنها قد سمعت بكاء الحوت في محيط عميق، وإلا، فما الذي يغرقها في هذا الصمت الكثيف؟ تقول لها في سرك: إن أعلنوا أن قنبلة ستنفجر في المطار، فلا تصدقي... لأني أنا من أطلق هذه الشائعة لاقترب منك وأقول لك إني، لا غيري، من أطلق هذه الشائعة. يخيل لك أنها اطمأنت، فرفعت نخبك متلألئاً، وانسل خيط من الرغبة من أطراف أناملها، وحرك في عمودك الفقري نبضة كهربائية، وهزتك قشعريرة... فتولهت وتأوهت، وفاحت رائحة المنجو من سرير سري معلق في الهواء، وناحت كمنجات بعيدات وارتخت أوتارها في نهاية الهياج.

لم تنظر اليها، لأنك تعلم أنها تنظر اليك ولا تراك، فقد حلك الضباب على طاولتك الدائخة من فرط ما كدست عليها من أدوات التأويل، ومن أوراق بيضاء لا يكفي عشرون مؤلفاً لإشباعها بالكنايات. لم يكن النادل، بل هي من ربتت على إغمائك، وقالت: هل كانت وجبتك شهية؟ وأنت ـ سألتها، فقالت: سعدت بلقائك... هل تذكرتني؟ قلت: قد يفقد المرء ذاكرته في المطارات. فقالت: وداعاً لم تنظر اليها وهي تبتعد، لأنك لا تريد أن ترى الرغبة وهي تدق بكعبين عاليين رخام الكاتدرائيات، وتوقظ في أجساد الكمنجات شبقاً إلى الرحيل. لكنك تذكرتها حين تسلل النعاس، كما تسلل خدر النبيذ إلى جسدك، بدءاً من الركبتين إلى ما لا تتذكر من غابة الجسد. أما اسمها، فقد تعرفه غداً، على طاولة أخرى في مطار آخر


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/569786.html