العدد: 1455 | الأربعاء 30 أغسطس 2006م الموافق 05 شعبان 1427هـ

من اختراق التابو الديني إلى تحقيق غاية الرواية

ماذا سيبقى من نجيب محفوظ؟!

منذ الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1988م، وهو التاريخ الذي أعلن فيه عن فوزه بجائزة نوبل للآداب، حتى قبيل موته بفترة وجيزة أصبح اسم نجيب محفوظ يثير عدة أسئلة وإشكالات... تتمحور هذه الأسئلة والإشكالات غالباً حول جائزة نوبل وما إذا كان موقف محفوظ من التطبيع مع «إسرائيل» محفزاً لأعضاء الأكاديمية السويدية في استوكهولم أن تمنح محفوظاً الجائزة، ومن جهة أخرى يثير اسمه الإشكال الذي مازال حاضراً بوهج البدء فيما إذا كان للأدب خطوط حمراء يجب ألا يتجاوزها، إذ يعتبر محفوظ من هذه الناحية الشخصية الأدبية الأبرز التي حاولت اختراق التابو في العالم العربي وأقصد هنا التابو الأخطر وهو التابو الديني، وتحديداً في روايته (أولاد حارتنا) خصوصاً حين نموضعها في سياقها التاريخي.

وقد كانت هذه الرواية هي السبب وراء محاولة اغتياله على يد أحد المتطرفين الإسلاميين في مصر، وفيما حدث أخيراً إذ قرر طبع الرواية المذكورة في مصر بعد أن كانت ممنوعة لمدة طويلة، وبتقديم أحد رجال الدين في الأزهر، ما أثار أقلام المثقفين والكتاب عن إشكالية المثقف وعلاقته برجل الدين، وما إذا كان يجوز للمثقف أن يسبغ على ما يكتب شرعية رجل دين، هو بامتياز العقبة الأكثر صعوبة في حرية التفكير والإبداع، وقد اعتبر كثير من المثقفين في العالم العربي أن ما قام به نجيب محفوظ هو بمثابة انتصار للديني على الثقافي، وطعنة للمثقف أساء بها الأديب الكبير بالدرجة الأولى للمثقف عموماً الذي ما انفك يكافح في محاولة استقلالية الثقافي عن الديني، ومن ثم إلى تاريخه في هذا المجال...

بحسب ياوس فإن النص الأدبي هو إجابة عن أسئلة القراء في عصره، فهل يمكن الحديث عن نجيب محفوظ بهذا التحديد؟!... في بداياته بدأ هذا الكاتب بنشره لروايات تاريخية تستلهم التاريخ الفرعوني وتحديداً في رواياته (عبث الأقدار) و(رادوبيس ) و(كفاح طيبة)، وبعد هذه الروايات بدأ نجيب محفوظ يتغلغل في أعماق المجتمع المصري، ليكتب عنه، بأغنيائه وفقرائه، بإقطاعييه وفلاحيه، بأنبيائه وشياطينه، وقد أبرز نجيب محفوظ بجدارة المتناقضات التي كانت تعصف بالمجتمع المصري من جميع النواحي والأبعاد، السسيو سياسية والثقافية والأخلاقية والدينية... وتتألق في هذا المضمار روايته الثلاثية بأجزائها (بين القصرين)، (قصر الشوق)، (السكرية)، وبحسب علي الراعي في كتابه «دراسات في الرواية المصرية» فإن الثلاثية تقدم إجابة عن سؤال هو ضرورة الإيمان بمبدأ ايديولوجي أو عقائدي، ولا يهم ما إذا كان الانتماء ينتمي لليسار الإيديولوجي أو لليمين، بينما يقول شفيع السيد إن الثلاثية تقدم إجابة عن أسئلة الدين والأخلاق عموماً، وتقدم انتقاداً صارخاً للسلوك السياسي المنحرف سواء كان هذا الانحراف ماركسياً أم وفدياً وذلك في فصل (الرؤية الاجتماعية عند نجيب محفوظ ) من كتابه (اتجاهات الرواية المصرية)...

يعتبر كثير من النقاد نجيب محفوظ مجرد رائد للرواية في العالم العربي، معتبرينه كاتباً حرفياً كالروائي الفرنسي بلزاك، بغض النظر عما إذا كان مبدعاً أم لا، بينما يحاول البعض أن يجعله الروائي الأبرز في العالم العربي خصوصاً بعد أن نال جائزة نوبل، وفي الرأي الثاني جزءاً من الصحة إلا إن هذه الآراء تنطلق غالباً من خلفيات قطرية مازالت تضع حاجزاً بين الأدب في مصر والأدب في باقي الدول العربية.

لعل الصورة الأبرز الذي يقتطفها قارئ محفوظ هي أن هذا الكاتب استطاع أن يؤرخ للمجتمع المصري في الفترة التي استطاع محفوظ أن يكتب عنها، وهذا بحسب الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر هو غاية الرواية، إذ عليها بحسب رأيه أن تؤرخ، ونجد في روايات نجيب محفوظ في غالبها صورة أو مرآة تعكس واقع المجتمع المصري في أدق تفاصيله وما يختفي تحت الفعل اليومي بين أفراده، حتى يحيلنا هذا للسؤال إذا ما كان هناك مسافة تفصل بين الكتابة وبين الواقع أم أنهما يمتزجان في نوع من الحلول الصوفية في جسد واحد هو الرواية الواقعية، وطالما أن روايات نجيب محفوظ استطاعت أن ترسم ملامح المجتمع في أدق تفاصيله، فبالتالي سيكون رسم الشخصيات بطريقة دقيقة متمايزة باعتبار أن الشخصية في الرواية التقليدية هي المحور التي تدور حوله الرواية، وهنا بخلاف البنيوية التي ترى بأن دراسة الرواية على أساس الشخصية يمكن فيما قبل القرن العشرين كروايات ليون تولستوي ودوستويفسكي وبلزاك ولورنس أما فيما بعد فإن الشخصية تعتبر عنصراً من العناصر الشكلية والتقنية مثل الوصف والسرد والتشكيل اللغوي، وذلك في الرواية الحديثة عند وليم فوكنر وفرجينيا وولف أو مارسيل بروست وأقطاب الرواية الجديدة في فرنسا كميشيل بوتور... ومن هنا يمكننا القول بريادة نجيب محفوظ للرواية في العالم العربي، فهو قام بما يشبه ما قام به رواد النهضة في الشعر كشوقي وحافظ والبارودي، فهؤلاء عادوا للشعر في فترات ازدهاره وتسلموه ليقدموا نموذجاً يحاكي النموذج السابق، ومحفوظ في الرواية عاد للروايات الكلاسيكية في الأدب الغربي ليكون به رائداً في العالم العربيا باعتبار أن الرواية فن غربي بامتياز.

ونجد أن محفوظا بقي محافظا على الرؤية التقليدية للرواية إذ انه وعلى رغم محاولات التجديد في تقنيات السرد إلا إنه بقي ملتزماً بتقنيات الرواية الكلاسيكية فإضافة لما ذكرنا كان محفوظ محافظاً على الرؤية التقليدية التي ترى بأن الكاتب يعرف كل شيء عن شخصياته فهو خالقها وهو بالتالي من يستطيع أن يفهمها في أدق أفعالها هامشية وعفوية، فبعد مراحل قطعتها الرواية في العالم العربي على يد جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف تمثيلاً لا حصراً، نجد رواية حديث الصباح والمساء تعود بالرواية لمرحلة البدايات في العالم العربي.

لعلنا عندما نذكر نجيب محفوظ نذكر سلسلة من الأعمال السينمائية التي مثلت بناء على رواياته، فبالإضافة لما ذكرناه عن تأريخه للمجتمع نجد أن هذه الأعمال قد أسهمت بشكل كبير في شهرة نجيب محفوظ، ولعل شخصية سي السيد ما تزال حاضرة في ذاكرة الجيل السابق، كما ستبقى هذه الشخصية في التصور الذهني طالما أن ثقافة سي السيد ما زالت حاضرة في المجتمع العربي عموماً، وهذه الشخصيات بقيت وستبقى لكونها قد مثلت بغض النظر عن الرواية، والسؤال الذي سيبقى هو، هل سيبقى نجيب محفوظ مقروءاً باعتباره أديباً متميزاً، تصنف رواياته على أنها امتلكت مسوغات بقائها على مر التاريخ أم إنها ستنتهي يوماً عندما تنحرف حيثيات بقائها عما كانت، وأقصد هنا بالحيثيات التغير في طبيعة المجتمع العربي عموما والمصري خصوصاً ليصل لمرحلة مغايرة، أم ان محفوظاً سيبقى باعتباره شخصية أدبية وثقافية تستدعي الاشكالات في العالم العربي وسيبقى يدرس باعتباره رائداً من رواد الرواية العربية، لعلني لا أجد هنا إجابة لأن التاريخ الذي حاول نجيب محفوظ برواياته أن يثبته في أعمال روائية هو وحده المخول بالإجابة عن هذا السؤال


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/640892.html