العدد: 3481 | الأحد 18 مارس 2012م الموافق 25 ربيع الثاني 1433هـ

الأحافير الضخمة وأساطير العمالقة

لا تكاد تخلو ثقافة في العالم من قصص مرتبطة بالعمالقة، الجماعات الشعبية تؤكد أن هناك «عمالقة» عاشوا في الفترات السحيقة، بينما يرى «المجتمع العلمي» أن ذلك كان مستحيلاً، ليس فقط بسبب غياب الدليل الفيزيائي للعمالقة ولكن هناك قوانين فيزيائية تحكم حجم الكائن الحي.

فلو افترضنا وجود إنسان «عملاق» أي أطول من الشخص الطبيعي بثلاثة أضعاف فإن هذا الإنسان إما أن يمتلك عظاماً لها تراكيب بيولوجية تختلف عنا لكي تتحمل وزنه، أو أن شكله يختلف عن البشر الحاليين، والسبب أن هناك عملية تناسب بين الطول والوزن ومساحة السطح والطاقة وآلية حماية الإنسان من الحرارة أو البرودة (له فراء أو جلد مختلف عن البشر الطبيعيين) والتي تعتمد على مساحة السطح، على سبيل المثال لو تم اعتبار متوسط الشخص الطبيعي خمسة أقدام ووزنه 70 كيلوغراماً، فإن هذا الشخص لو تضاعف طوله ثلاثة أضعاف؛ أي أصبح طوله 15 قدماً فإن مساحة سطحه تتضاعف بما مقداره 9 أضعاف بحيث يشغل هذا الشخص حيز حجمه 45 قدماً، ويتضاعف وزنه بما مقداره 27 ضعفاً؛ أي يصبح وزنه قرابة 1900 كيلوغرام، فأي شكل سيتخذه هذا العملاق وأي عظام ستتحمل عبء هذا الوزن. إن الأشخاص المشهورين بطولهم في العالم عانوا من العديد من الأمراض بسبب هذا الطول فكان منهم من يلبس حديداً في أقدامه بسبب أن عظامه لا تتحمل وزنه، وللمزيد حول فيزياء العمالقة واستحالة وجودهم في الطبيعة يمكن الرجوع إلى بحث Julian Franco « The Physics of Giants and Dwarves «على موقعه وكذلك المراجع المرفقة في البحث.

والسؤال الآن، إذا كان وجود العمالقة مستحيلاً، على الأقل بالصورة التي نتصورها لهم، فمن أين جاءت قصص العمالقة والأساطير المتعلقة بهم؟. النظرية المرجّحة هي أن الشعوب القديمة عندما عثرت على عظام لكائنات حية عملاقة انقرضت من الوجود اعتقدت أنها لعمالقة وصاغت قصصاً تتعلق بها، وقد تم ربط أساطير العمالقة بشعوب معينة وديانة معينة وبذلك تحولت العمالقة من مخلوقات لرموز تدل على اثنيات أو ديانات معينة، وسنحاول في هذا الفصل توضيح ذلك.

الأحافير وأساطير العمالقة

من أشهر الكتب التي تناولت هذا الموضوع بالتفصيل هو كتاب The First Fossil Hunters للباحثة Adrienne Mayor، يتناول الكتاب في مضمونه حالة الشعوب القديمة التي استوطنت اليونان والجزر الإيجية Aegean Islands عند ما عثروا للمرة الأولى على عظام كبيرة تخص حيوانات منقرضة كالماموث مثلاً، وترى Mayor أن أصل أساطير العمالقة والمخلوقات الأسطورية التي شاعت في الأساطير اليونانية هي هذه العظام العملاقة، حتى المخلوقات الغريبة أو المركبة المذكورة في تلك الأساطير يعتمد تركيبها بحسب نوعية العظام التي عثر عليها (Mayor 2000، pp. 196 - 197). على سبيل المثال العملاق ذو العين الواحدة المسمى سيكلوب في الأساطير اليونانية، فهو مستلهم من العثور على جمجمة الماموث فهي جمجمة كبيرة وبها فتحة عظمية في الوسط (موضع الخرطوم) وكأنها عين واحدة فاعتقدت شعوب تلك الحقبة أنها بقايا عملاق له عين واحدة (Mayor 2000، p. 215).

غالبية الكتاب اليونانيين المشهورين من أمثال أرسطو لم يتطرقوا إلى قضية العثور على عظام كبيرة؛ إذ يتم تناول قصص العمالقة والمخلوقات الأخرى كخيال ومعتقدات خرافية، بينما الأعمال غير المشهورة لكتاب يونانيين غير مشهورين تناولت موضوعات العثور على عظام عملاقة ومواقع العثور عليها وتم توثيق ما تعتقده تلك الشعوب عنها، وهذه الكتابات تم إثبات حقيقتها بأعمال التنقيب الآثارية والبحوث البلانتولوجية (Mayor 2000، p. 193).

قبور الأبطال والأولياء

كانت الشعوب القديمة في اليونان والجزر الإيجية عندما تجد عظاماً كبيرة تعتبرها عظاماً لأبطال قدماء، ويتم حينها جمع تلك العظام ووضعها في نعوش وبعدها يتم دفنهم بمصاحبة طقوس جنائزية تتناسب ومقام الأبطال، وقد تم العثور على دلائل تشير إلى هذا التقليد في القرن السابع قبل الميلاد (Mayor 2000، pp. 183 - 185). وتشير كتب التاريخ إلى أن الأوراكل في دلفي أخبر الأسبارتيين في قرابة عام 560 ق. م أنه يتوجب العثور على عظام البطل أوروتس لكي يتمكنوا من التغلب على منافسيهم، وقد ذكر هيرودوتس (قرابة 560 ق. م) أن سبب سيطرة الأسبارتيين هو عثورهم على بقايا العظام لذلك البطل (Mayor 2000، p. 110).

وقد استمر هذا التقليد القديم لمئات السنين، ففي أوربا في القرون الوسطى كانت تجمع العظام الكبيرة التي يعثر عليها وتوضع في نعوش وتدفن في كنائس باعتبار أن هذه العظام بقايا لقديسين أو ملائكة وقعت على الأرض أو أنها بقايا عمالقة كانت تعيش في عصور سحيقة وجرفها طوفان نبي الله نوح عليه السلام (Mayor 2000، pp. 77، 225). ويبدو أن العديد من الجماعات الشعبية في العالم الإسلامي اقتبست هذا المفهوم، فقد زعمت تلك الجماعات أن الشعوب القديمة كانت فائقة الطول، وهناك العديد من القبور العملاقة والتي تنسبها تلك الجماعات لأولياء، أو حتى أنبياء، وهناك قبر ضخم ينسب لأبي البشر آدم عليه السلام.

العمالقة كرمز للوثنية

ارتبطت قصص وأساطير العمالقة باليونان وبما أن اليونان وثنيون فقد أصبحت العمالقة مرتبطة بالوثنية، فإذا قيل إن شخصاً ما عملاق أي هو وثني، وأول من استعار هذا الرمز هم العبرانيون؛ إذ وصفوا غير اليهود الذين تصدوا لهم بالعمالقة، وقد جاء ذكر العمالقة في التوراة «وقد كانوا أول شعب صدم العبرانيين حينما خرجوا من مصر متجهين إلى فلسطين. وظلوا يحاربونهم، ويكبدونهم خسائر فادحة، وأوقعوا الرعب في نفوسهم، ولهذا ثار الحقد بينهم على العماليق. ويتجلى هذا الحقد في الآيات التي قالها «صموئيل» لشاؤول «Saul» أول ملك ظهر ضد العبرانيين، قالها لهم باسم «إسرائيل»: «إياي أرسل الرب لمسحك ملكاً على شعبه (إسرائيل). والآن فاسمع صوت كلام الرب. هكذا يقول رب الجنود. إني افتقدت ما عمل عمليق بـ (إسرائيل) حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر. فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ماله، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاّ وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً». وهذا الحقد هو الذي جعلهم يخرجونهم من قائمة النسب التي تربطهم بالساميين. (علي 1993، ج1 ص 346 - 347).

وقد اقتبس العرب قصص العمالقة عن العبرانيين واعتبروهم من العرب البائدة، جاء في «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»: «وحشر الأخباريون العمالقة (العماليق) في هذه الطبقة أيضأَ، فنسبوهم إلى «عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح». ولم تذكر التوراة أصلهم ونسبهم، وهي لا تشير إلى أبناء (لود) أو (لاوذ) كما يقول له الأخباريون. و(عمليق) جد العمالقة، هو شقيق طسم. ويذكرون أنهم كانوا أمماً كثيرة، تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر. ويعرف أهل عمان والبحرين بـ (جاسم)، وجاسم هم من نسل عمليق على زعم أهل الأخبار. وكان من العمالقة أهل المدينة، ومنهم (بنو هف) و (سعد ابن هزان) و (بنو مطر) و (بنو الأزرق). وكذلك سكان نجد، ومنهم بديل وراحل وغفار، وكذلك أهل تيماء. وكان ملكهم (الأرقم)، وهو من العمالقة. وهو من معاصري (موسى) على رواية الهمداني. وقد أرسل (موسى) عليه جنداً لمقاتلته ففتك بأتباعه أهل تيماء وببقية عمالقة الحجاز ... والعمالقة الذين نتحدث عنهم، هم عرب صُرحاء، من أقدم العرب زماناً، لسانهم اللسان المضُرَي الذي هو لسان كل العرب البائدة على حد قول أهل الأخبار. بل زعم بعضهم أن عمليقاً، وهو أبو العمالقة، أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل، فكان يقال لهم ولجرهم (العرب العاربة). ويظهر من فحص هذا المروي في كتب الأخباريين عن العمالقة ونقده أنه مأخوذ من منابع يهودية» (علي 1993، ج1 ص 345 - 346).

وفي قرون لاحقة اقتبست الكنيسة في أوربا رمزية العمالقة لتشير إلى جميع غير المسيحيين كالوثنيين والمسلمين واليهود وغيرهم، وقد شاع استخدام هذه الرمزية بقصص الفرسان التي ارتبطت بالملك آرثر في القرون الوسطى (Darrah 1994، p. 119)، وكذلك العديد من قصص الفرسان الشعبية المشهورة في القرون الوسطى، وهكذا شاعت «ثقافة العملقة» وهي استخدام رمز العملاق لوصف مجموعات بشرية بأن لهم خلقة وطباعاً غير بقية البشر، وللوقوف على تفاصيل رمزية العمالقة وشياع «ثقافة العملقة» يمكن الرجوع إلى أطروحة Stacey Elizabeth Triplette المعنونة «Pagans، Monsters، and Women in the Amadis Cycle».


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/644348.html