يقول الفيلسوف نعوم تشومسكي: المؤسسة التجارية هي استبدادية. ويورد في نظريته الواقعية «هكذا دائما تفهم». ويضيف: «من ضمن المؤسسات الإنسانية، من الصعوبة أن تجد مؤسسة واحدة هيكلها الداخلي أكثر استبدادا منها. إذ تأتي الأوامر من أعلى إلى أسفل. في الأسفل يمكن أن تؤقلم نفسك معها إذا كنت محظوظا. وفي المستوى الأوسط، تتلقى الأوامر من أعلى ومن ثم تمررها إلى أسفل. فهل تعلم ما يطلق على ذلك في المجال السياسي؟». يطلق تشومسكي على ذلك فاشية.
ويوصف تشومسكي دائما أنه أحد مفكري الغرب البارزين الصرحاء. وكمفكر، أحدث نقلة في مجال علم اللسانيات، مغيرا أفكارنا عن لغة الإنسان، وفي المقابل، عن طبيعة العقل. انه أحد الفلاسفة الأساسيين في العصر الحديث. يقول كاتب سيرته الحديثة، روبرت بارسكي «تشومسكي أحد أكثر الشخصيات المهمة في هذا القرن، ويوصف بأنه سيكون لأجيال المستقبل ما يمثله كل من جاليليو، ديكارت، نيوتن، موتسارت أو بيكاسو بالنسبة إلينا». وتشير دراسة علمية أدبية معاصرة أنه أعظم مفكر حي يستشهد به.
ولكن بصفته كاتبا سياسيا وناشطا ربما يكون الأفضل شهرة. خلط تشومسكي راديكالية الجناح اليساري، الثقافة الهائلة والغضب الجوبيتري وقليل من منتقدي السياسة الخارجية الأميركية أكثر ضراوة وحنكة من تشومسكي. قليل من منتقدي الوسائل الإعلامية أكثر قلقا على المعتقدات الليبرالية للطبقة الرابعة (الصحافة) منه. وقليل من المعلقين السياسيين يثيرون أسئلة أساسية مثل هذه عن عصر الرأسمالية المزدهرة: عصرنا، أي، عندما تصبح الفكرة الحاكمة هي فكرة السوق الحرة.
ويقول تشومسكي «ستكون معجزة إذا تحول الأمر إلى طريقة أخرى. إذ يبشر الأغنياء الفقراء بالسوق الحرة ويطلبون منهم ممارستها، ومع ذلك، نادرا ما يمارسونها هم بأنفسهم. فالشركات الأميركية الكبرى، مثلا، دائما مستعدة لطلب مساعدة الحكومة عندما تحتاجها شركات الفولاذ الكبرى الأميركية تحاول الآن استبعاد الفولاذ الياباني من السوق الأميركية. يقول تشومسكي: «فرضت الولايات المتحدة تعرفة وقائية عالية ضد الحواسيب العملاقة اليابانية لأنها تخفض المنتجات الأميركية». إذا يمارس الأغنياء والأقوياء سياسات السوق الحرة عندما تلائم مصالحهم. إذ أن الولايات المتحدة راضية عن السوق الحرة للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وحتى تحاول فرضها على بقية العالم. وكان ذلك بسبب أن الشركات الأميركية متفوقة في المجال وربما مهيمنة عليه. والوضع السائد نفسه للشركات الأميركية نتيجة للإعلانات المالية الحكومية والتنمية والبحوث المدعومة حكوميا. ويمضي تشومسكي مستطردا «تعتبر الانترنت مثالا رائعا في هذا، لقد تطورت كثيرا داخل النظام الحكومي، في البنتاغون وأخيرا في مؤسسة العلوم القومية، ومنذ سنوات قليلة ماضية فقط سلمت إلى القطاع الخاص. الآن تعتبر قوة دافعة عظيمة في الاقتصاد». وتم تطوير اصلاحات السوق الحرة من أجل أن تؤدي إلى كفاءة عالية: «إنه لأمر غير كفؤ» أن تسيّر السكك الحديد من خلال مزيد من العاملين أكثر من الضرورة. ولكن عدم الكفاءة كما يقول تشومسكي «نظرية أيديولوجية». أعني هل من عدم الكفاءة أن تستخدمهم (عمال السكك الحديد) وكفاءة أن تدعهم جوعى؟ هذه معايير ايديولوجية للكفاءة على مستوى رفيع». وأضاف: «عادة تحرف هذه المعايير بطريقة ما من أجل إفادة الأقلية القوية». ويقول إن التدهور في الطرق الحديد في الولايات المتحدة نتيجة لبرنامج الطرق السريعة الحكومي الضخم في الخمسينات. فهو ربما المشروع الهندسي الاجتماعي الحكومي الأعظم في التاريخ». «انه المشروع الذي مدّن أميركا بالأساس ونقل المواصلات إلى الطرق والطيران وبعيدا عن النقل العام. حسنا، لصالح من هذا التأهيل؟ أعني انه بالتأكيد تأهيل لصالح أطراف القطاع الخاص التي هي من ورائه، صناعة السيارات وصناعة النفط وصناعة الإطارات وما إلى ذلك. انه من الصعوبة أن نحتج انه تأهيل من أجل الجمهور. في الواقع، لم يؤدِ ذلك إلى سرعة. انني استغرق وقتا أطول في الذهاب إلى العمل اليوم - اذ يبعد 10 أميال (16 كلم) - أكثر من قبل 40 عاما ماضية. إذ استخدمت النقل العام يكون ذلك أفضل بكثير، ولكن غاليا وصعبا على نحو محظور».
واتخذ تشومسكي كوريا الجنوبية كنقيض حي للفكرة بأن النمو الاقتصادي والتنمية يمكن أن يزدهران فقط في السوق الحرة. فقد كانت لكوريا الجنوبية فترة نمو مدهشة، في الواقع غير مسبوقة تاريخيا: إذ نما اقتصادها بنحو عشر مرات في 30 عاما. طوّروا ذلك تحت نظام اجتماعي واقتصادي جميل في كل الأحوال - وعلى سبيل المصادفة بغيض للغاية. ولكنه تطلب تنسيقا، مراقبة وتنظيم رأسمالي حكومي وما إلى ذلك. ثم لويت ايديهم في مطلع التسعينات لتفكيك كل ذلك وكان في الواقع ثمنا لقبولهم في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. فهو الآن معترف به عبر مجال واسع بما في ذلك البنك الدولي، إذ كان ذلك التفكيك عاملا، ربما قاد إلى التدهور الاقتصادي التي تواجهه كوريا الجنوبية الآن».
اتفاق (الجات) الذي نادت به نيوزيلندا ودول أخرى كتقدم أساسي في التجارة الحرة، هو في الواقع حماية جزئيا. إذ مازالت الولايات المتحدة وأوروبا تبقي على الاعانات الزراعية المادية. ربما كانت هذه الاعانات أقل من ذي قبل والتغيير ربما يفيد دول التبادل الزراعي مثل نيوزيلندا. ولكن اتفاق (الجات) نوع من خليط من وسائل الحماية والليبرالية والتي عندما تفحصها، تجدها وضعت لمصلحة القطاعات المهيمنة للتجارة الدولية».
وقد أولت وسائل الإعلام الغربية قليلا من التغطية للاتفاق متعدد الأطراف عن الاستثمار، خطة مثيرة للجدل لتحرير الاستثمار العالمي. السبب كما يقول تشومسكي «واضح» (إذ أن وسائل الاعلام) مؤسسات ضخمة تعتمد على شركات أخرى في التمويل، وهي قريبة من سلطة الدولة ولكن ذلك واقع في قطاع الشركات برمته، وهي لديها مصالحها. ومن مصلحتها مثلا ألا يكتشف الجمهور ولا يعرف شيئا عن الاتفاق متعدد الأطراف للاستثمار، وهي مصلحة مفهومة).
طور تشومسكي وزميله ادوارد هيرمان «نموذج دعاية» لوسائل الاعلام. فالطبقة الرابعة (الصحافة)، بعيدا عن بطلة للحقيقة وحصن للشعب ضد الحكومة، في الواقع تخدم غرضا مختلفا تماما. دورها عمليا، كما يراه تشومسكي «حماية الامتياز من تهديد فهم ومشاركة الجمهور». فجيوش الأكاديميين، الحكومة والمديرون الأيديولوجيون للشركات متورطون في تكوين «قبول مصطنع» - لاقناع الناس في دعم الوضع الجائر الراهن.
وهذا هو السبب الذي جعل تشومسكي، أستاذ اللسانيات في معهد ماسوشوستس للتكنولوجيا مبعدا منذ عقود بواسطة السلطات المعنية إذ أن جذور معارضته عميقة للغاية. فسمعة تشومسكي تعد خطيرة على نحو هائل: إذ تغلي كتاباته السياسية مع الغضب الأخلاقي. وهو معارض رهيب لا يميل إلى إعطاء مساحة لمنتقديه. وأدى ذلك لردود فعل ضارية... ولكنه يلمح إلى أن الناس الذين يختلفون معه بأنهم أغبياء وجهلاء.
ولكن تشومسكي يجد بعض مؤشرات الأمل. فتكنولوجيا المعلومات الحديثة تستخدم لايجار ومراقبة وتقوية سلطة الإدارة ولكن أيضا تستخدم كوسيلة للكسب واحداث مجتمع ديمقراطي وحر أكثر، مثلا، مراقبة العامل... يمكن أن تستخدم لاحداث معلومة وقت حقيقي للناس في كل مكان لأجل مشاركتهم في القرارات».
وهناك أيضا توسيع وانتشار للأفكار الديمقراطية عن حقوق الإنسان: على رغم أنه بطيء على نحو مؤلم ولكن هناك سبب لماذا هؤلاء الطغاة (المؤسسات) يجب أن تستبعد من قضية حقوق الإنسان. وكان تشومسكي مندهشا بواسطة التجاوب الحماسي الذي وجده من مستمعي الاتحادات لأفكاره عن هذه القضايا «انها كانت غير مفهومة قبل سنوات قليلة في الولايات المتحدة».
ويقول الفيلسوف انه على المدى القصير، أصبحت المؤسسات الاقتصادية ناجحة على نحو مذهل. فنمو الأرباح في التسعينات (في الولايات المتحدة) كان رائعا وضخما - تلك هذه الكلمات التي استخدمتها الشركات. في تلك الأثناء كانت الأجور رائدة وهي بالكاد تصل إلى مستويات العام 1989». ولكن الشركات أيضا محتارة ما إذا كان ازدهارها على حساب العامل يمكن أن يؤدي إلى رد فعل. انها قلقة بهذا الشأن. يمكن أن تقرأ عن ذلك في الصحافة الاقتصادية للسنوات القليلة الماضية، انها مليئة بالمناقشات: متى ينفجر الوقع؟ لا أحد يعرف، كما يشير تشومسكي، ما إذا كان سيحدث رد فعل شعبي - ولا أحد يدري ما شكل ذلك. ربما يتخذ شكلا قبيحا. انظر إلى الحركة المنبثقة من الركود الاقتصادي في أوروبا قبل عقود قليلة ماضية، وهي الجزء الأكثر تحضرا في العالم» يحذر تشومسكي «مع وجود معايير ثقافية عالية جذورها 70 عاما، ماذا حدث لألمانيا... لا حاجة إلى المزيد من القول»
العدد 272 - الأربعاء 04 يونيو 2003م الموافق 03 ربيع الثاني 1424هـ