المشهد الأخير من فيلم "مملكة الجنة" الذي يتحدث عن تحرير صلاح الدين الايوبي القدس من الفرنجة "يعرض حاليا في سينما الدانة" يختصر الكثير من الافكار التي اراد المخرج نقلها إلى المشاهدين. فالمشهد الاخير يحاكي الحاضر وهو يخاطب الذاكرة من خلال شواهد الماضي. المشهد بسيط للغاية ولكنه غني في تلك الإشارات السياسية التي تدل على وقائع يعاد انتاجها في القرن الحادي والعشرين.
ماذا نرى في المشهد؟ اسرة كانت في القدس وحاربت صلاح الدين دفاعا عن مملكة الفرنجة وانتهت تلك المعركة الدموية بتسوية سياسية وهي: تسلم المدينة المقدسة لجيش المسلمين مقابل خروج اهل المدينة بسلام منها والعودة إلى ديارهم بضمانة اخلاقية وتعهد مباشر من صلاح الدين. وتتوقف المعركة ويخرج الفرنجة بسلاحهم وكل ما استطاعوا حمله ويدخل المسلمون مدينتهم.
ينتقل المخرج إلى المشهد الاخير وهو يصور ذاك اللقاء المفترض بين تلك الاسرة التي خرجت باتفاق سلام مع صلاح الدين وقائد الحملة الثالثة "الصليبية" الملك الانجليزي ريتشارد "قلب الاسد". الملك يعرض على تلك الاسرة الانضمام اليه في حملته لاسترداد القدس من المسلمين. الاسرة تتردد لأنها شهدت وقائع المواجهة العسكرية وكلفتها الدموية ونهايتها التي اسفرت عن "لا غالب ولا مغلوب" وهي نتيجة قضت بتسليم المدينة وعدم العودة إلى الحرب.
المشهد الأخير يقول ان الحرب عادت حين وافقت تلك الاسرة على الانضمام إلى حملة ريتشارد الثالثة وهي ستكون الاعنف في تاريخ حروب الافرنجة وفق التسمية التي اطلقها المؤرخون المسلمون و"الحرب الصليبية" كما اسماها المؤرخون الأوروبيون.
انضمام الاسرة إلى الحملة الثالثة كان المشهد الاخير في فيلم "مملكة الجنة". وهو مشهد يختصر تلك الأفكار التي يريد قولها المخرج من خلال ربط الماضي بالحاضر وتجديد القول إن تلك الحرب لاتزال فصولها متتالية إلى ايامنا "حرب فلسطين الدائرة حتى الآن على القدس".
ربط الماضي بالحاضر مسألة مهمة وهي ما اراد المخرج التوصل إليه حين قرر تصوير المشهد الأخير. فالفيلم انتهى من حيث يجب ان يبدأ وبدأ من حيث يجب أن ينتهي، الا ان بداية الفيلم تطرقت إلى تلك المواجهة الدموية التي حصلت بين قوات صلاح الدين وجيوش الفرنجة في معركة حطين "385 هـ/ 7811م" ثم معركة تحرير القدس في السنة نفسها. فالفيلم يتناول نهايات الحملة الثانية التي جاءت اصلا للرد على تلك المعارك التي قادها عماد الدين زنكي ونجاحه في تحرير مدينة الرها "935 هـ/ 4411م" من قبضة الأفرنجة. فالثانية حلقة جاءت في سلسلة طويلة من الحملات وصل تعدادها في النهاية إلى رقم تسعة. تسع حملات نظمتها أوروبا "الغرب" ضد الاسلام "الشرق" وامتدت على اكثر من 002 سنة وانتهت أخيرا إلى استسلام الفرنجة بسقوط مدينة عكا "096 هـ/ 1921م". وعودة الديار ومدن بلاد الشام وسواحلها إلى المسلمين.
مخرج "مملكة الجنة" لا يتناول التفصيلات وانما يأخذ فترة بسيطة من تلك الحروب الممتدة وهي كافية لشرح بعض اسباب تلك الحملات ولتوضيح صورة الموقف الراهن من خلال قراءة توخت الموضوعية في شرح تلك المواجهات الدموية.
الفترة التي يتناولها المخرج هي تلك الفاصلة بين نهاية الحملة الثانية وبداية الحملة الثالثة في مطلع العام 885 هـ/ 2911م وهي الاكثر دموية والاعنف وستنتهي ايضا إلى توقيع صلح الرملة بين ريتشارد وصلاح الدين في نهاية العام نفسه.
النتيجة واحدة ولكن مخرج الفيلم يكتفي بسرد وقائع تلك المواجهات بين الجيشين وكسر اتفاق الصلح بسبب وجود تيارات دينية "مسيحية اصولية" تحرض ضد المسلمين باسم الدين وتدفع القيادات السياسية "العاقلة" إلى معارك طمعا بالارض والمال والثروة. فالمخرج لا يدافع عن المسلمين وحقهم في الحرب لاستعادة مدنهم ولكنه يدين ذاك التطرف "المسيحي الاصولي" ضد التسامح الاسلامي الذي قاده صلاح الدين على رغم وجود تيارات اصولية متطرفة في قيادة جيشه المسلم.
الفكرة المركزية واضحة. فالمخرج مع موادعة صلاح الدين ولكن مجرى الوقائع يميل إلى ريتشارد. المخرج يريد ان يقول إن الدين ليس سببا لتلك الحروب ولا للحروب التي نشهدها حاضرا في فلسطين والعراق وافغانستان. فالدين مجرد غطاء ايديولوجي لتلك المصالح الحقيقية وهي متصلة بالمال والثروة والارض والنهب... واخيرا البحث عن موقع "زعامة سياسية" في الغرب من خلال المزايدة في التطرف والدعوة لمواجهة الشرق. فكل مسئول أوروبي "انذاك" واميركي "الآن" يريد أن يكسب شعبية في بلاده ويدخل التاريخ كبطل اسطوري يبدأ بالتحريض ضد المسلمين وجرجرة شعبه تحت شعارات مخادعة إلى حرب دينية ايديولوجيا ولكنها تهدف في الحقيقة إلى نهب الارض والثروات. المشهد الأخير من فيلم "مملكة الجنة" اراد ان يقول ذلك. فالأسرة التي حاربت وتابت وتعهدت بعدم العودة إلى فلسطين خالفت وعدها حين حانت الفرصة لذلك. وحتى الآن لاتزال الحملات جارية، وحين تتوقف برهة تعود للاندلاع حين تتوافر الفرصة.
فيلم "مملكة الجنة" جيد في اخراجه وتمثيله وتصويره لتلك المشاهد المفزعة. فالمخرج توخى التواضع وحرص على عدم الدخول في الايديولوجيا واكتفى بسرد الوقائع من دون تدخل في شرح الاسباب. المخرج يكتفي بالنتائج لتمرير رسالة ذكية تربط حاضر العالم بماضيه وتحديدا في هذه البقعة من الكرة الأرضية. فهذه بقعة شاء القدر ان تكون مهبط الرسالات السماوية الثلاث. ففيها ولدت اليهودية وفيها ولدت المسيحية، ومنها جاء الاسلام. وكل فريق يدعي ان القدس مدينته ومن يسيطر عليها يتحكم في النهاية بقرار السلم أو الحرب. فهي برأية "لا شيء وكل شي".
مخرج الفيلم يضعنا امام هذه اللوحة السردية وينطلق من فكرة ان الكل ابرياء وضحايا والكل يدفع ثمن جريمة لم يرتكبها. والحل الذي يقترحه المخرج اقرب إلى صلاح الدين... لكن لا اصل له ولا نهاية. فهو يميل إلى الموادعة والتفاوض والسلم كما اراد صلاح الدين ولكن التاريخ لا يسير وفق الرغبات الحسنة... والدليل ما حصل في المشهد الأخير: انضمام الاسرة إلى دعوة ريتشارد لها للالتحاق بالحملة الثالثة. فالحرب لا تزال مستمرة
العدد 999 - الثلثاء 31 مايو 2005م الموافق 22 ربيع الثاني 1426هـ