تتعامل الولايات المتحدة الأميركية بمعيارين عند اتخاذ المواقف من التجاوزات التي تحصل على الصعيد الدولي، وخصوصا في مجال حقوق الإنسان، إذ تعتبر وهي التي تحمل لواء عالمية الإنسان من أكبر الدول التي يمارس فيها العنف وخصوصا ضد المرأة.
وذلك بحسب تقارير منظمة العفو الدولية، ولم تكف يوما عن القيام بادعاءاتها بأنها تمتلك حقا حصريا لقيادة العالم وتصدير ثقافة العالم الحر. أما في حقيقة الأمر، فلا يعدو ذلك إلا لغوا وعلكا لمفاهيم مطاطية تفسر بحسب الموضوعية الأميركية بغير اتجاهها الأصولي، أما في نظر المقهورين الذين تطولهم هذه الممارسات البشعة فلا تعدو أن تكون تدخلا سافرا وغير مبرر في شئونهم الداخلية والخارجية، وبالتالي في سيادتهم واستقلالهم. إن بعض هذه الدول تساير لأسباب شتى يدخل فيها كل شيء وتختلط على الناظر كل الأمور فلا تستطيع أن تضع على رأس القائمة إلا معيار القوة الذي بات مغلفا بخطرين: أولهما العولمة، وثانيهما القضاء على المنابت الأصولية للإرهاب، وذلك يتم بحسب المعاينة الاعتباطية من دون النظر إلى تعريف واضح وصريح للإرهاب أو للمقاومة، سواء أكان الإرهاب والمقاومة بحسب القانون والشرعة الدولية أم بخلافه.
كيف لأميركا الحق في القيام بإصدار تقارير عن الدول بشأن ممارسات حقوق الإنسان سنويا أو فصليا، متهمة البلدان الأخرى بكثير من المخالفات التي تصفها بالجرمية، من دون أن تقر بما يجري في داخلها من تمييز في اللون والعرق والدين، وتقاسم للنفوذ وللمؤسسات الإعلامية والأكاديمية والوظائف المهمة وحتى غير المهمة. إن الإحصاءات والحقائق الدامغة تجرم الولايات المتحدة في أبسط أمور الحياة وفي النظر إلى حرياتها الأولى، كما تجرمها في نظرتها إلى الاستراتيجيات القريبة والبعيدة. وهاكم بعض الحقائق المذلة التي يجب على كل مواطن أميركي التفكير بها مليا كل يوم، هذا إذا أخذنا بمقولة انهم قد ارتقوا إلى درجة أصبحوا فيها من النوعية، وربما من أصحاب الدم الألوهي الأزرق الذين وجب عليهم إنقاذ وإيقاظ الضمير العالمي النائم على موسيقى "الجاز" الحرة:
- إن عدد السود في السجون أكبر من عدد السود في الجامعات على أراضيها، في الوقت الذي تغمض عينيها عن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان على أراضيها وتتذكر ما يجري عند غيرها. وتشير دراسة أعدت في "معهد سياسة القضاء الأميركي" إلى أن 1 من 5 أشخاص سود يدخل السجن لفترة من الزمن في حياته.
- إن ما شهدناه من عرقلة الإدارة الأميركية لفترة طويلة إقرار نظام محكمة الجزاء الدولية لهو دليل دامغ على إفلاسها الأخلاقي والأدبي، إذ طالبت بأن تشمل صلاحيات المحكمة كل بقاع الكون باستثناء الجنود الأميركيين، ذلك لأن في ذلك تعارضا جليا لطموحاتها الاستعمارية، ولأن ذلك لا يتفق وسياساتها العدوانية الاستيطانية، على رغم أنها تأتي تحت ذرائع واهية، ويؤكد ذلك قولا التعاطي الإجرامي اللاإنساني فيما يختص بمجزرة الفلوجة التي راح ضحيتها في اليوم الأول من المعارك 600 شخص، وكانت حصيلة اليوم الثاني 800 شخص، وكان مجموع المجزرة في أسبوعين قد قارب 5500 شخص.
- لم توقع الولايات المتحدة الأميركية اتفاق حظر الألغام البشرية، فهل لأن ذلك يتعارض مع مقدمات ونتائج العالم الحر؟! إن العالم الحر الذي تفرضه علينا أشبعنا ألغاما من مختلف الأصناف الوقحة.
- احتجزت الكثيرين في سجون خارج الولايات المتحدة، وأشهرها سجنا "غوانتنامو" في كوبا و"أبوغريب" في العراق.
- انتهكت حقوق المحتجزين في أن يلقوا معاملة إنسانية وأن يستعين كل منهم بمحام، وأن يتمكنوا من الطعن في الشرعية القانونية لعمليات التوقيف والمحاكمة التي هي أبسط حقوق الدفاع، علما بأن القانون الأميركي لا يطبق في هذه المحاكمات، بل تلجأ العبقرية العدوانية إلى أن تشملهم بقانون الطوارئ العسكري، علما بأنها مازالت تطلب من الجمهورية العربية السورية بإلحاح وضغط شديدين بأن تقوم بعمل تشريعي يلغي القانون المذكور على أراضيها لمخالفته حقا من حقوق الإنسان.
- إن العراقيات، والأفغانيات، كما نساء كوسوفو أو الصومال وغيرهن ممن خضعن لبطش سلطاتهن، لسن بأفضل حال تحت الاحتلال الأميركي منه تحت حكام "الدكتاتوريات" المذكورة إذ ازداد وضعهن سوءا جراء التعذيب والتوقيف الاعتباطي وحتى أثناء الحمل والولادة. لقد تعرضن للاغتصاب والعنف والإذلال على أيدي القوات الأميركية، وفي حال انعدام الأمن وتعميم الفوضى الأمنية تعرضت الفتيات للخطف والتنكيل، وكما هو معروف بأن الحفاظ على الحال الأمنية إبان الاحتلالات مسئولية تقع على المحتل، وليس على عاتق السكان أو تهمة تلصق بميليشيا أو بنظام مدني أو عسكري قد سقط.
- قاموا بإطلاق النار على أشخاص باللباس المدني في العراق كما في غيره، وأجهزوا على جرحى، كما أنهم تركوا جنودا عراقيين يحتضرون في ساحة المعركة، أو محاصرين في المراكز الطبية والمستشفيات من دون الحاجات الضرورية لإسعافهم.
- استعمال حق النقض "الفيتو" بما يتناسب مع مصالحها، ومع مصالح "إسرائيل" حليفتها على أرض فلسطين المحتلة بما يخالف حقوق الإنسان الأساسية وبنود القانون الدولي وخلافا لقرارات مجلس الأمن الدولي، وحتى خلافا للقوانين الوضعية أو الطبيعية.
إن هذا ليس آخر كلام سنقوله في إرهابهم الماضي، ولا في بطشهم حاضرا ومستقبلا... فإن تكف الولايات المتحدة عن سياسة التعالي واستحقار الشعوب وإذلالها وإخضاعها لمفاهيم لا تستمد من حياتهم وتراثهم وثقافتهم الوطنية، لهو أجدى وأنفع من حروب طاحنة تقضي على كل شيء بما فيه حياة الإنسان وقيم العالم الحر التي يتبجح بها. إن مساوئ الإصلاح الديمقراطي المفروض أكثر من محاسنه، وإن سلبياته أكثر من إيجابياته، وإن الخسائر الفادحة البشرية والاقتصادية والإنسانية لن تعوض العالم تحت ثوب ديمقراطي، مهما كان لونه أو أصله أو جنسية صانعيه، إن هذا الثوب ربما لا يتسع لارتدائه بالقوة ما يؤدي إلى عملية تمزيق للثوب وللصانع وللمستهلك. إن الولايات المتحدة، التي تفتخر بأنها نموذج الديمقراطية، تحاول بكل قوة أن تبيع العالم نمطها في الديمقراطية وشكلها ولونها وجنسها. أما في واقع الأمر، فإن الديمقراطية الأميركية كانت دائما ديمقراطية للأغنياء ولعدد قليل من السكان، فهي ديمقراطية البيض على حساب السود، وديمقراطية المسيحيين على حساب المسلمين، وهي كذلك ضمنا ديمقراطية الميسحية الصهيونية على المسيحية المشرقية الحقة. وإلى يوم نلتقي فيه على ديمقراطية تناسب أقانيم الخير والحق والجمال، سنقول: إلى اللقاء القريب... وإننا سنبقى نعمل للحياة كما أصر المفكر أنطون سعادة عندما قال: "سواء أفهمونا أم أساءوا فهمنا، فإننا نعمل للحياة ولن نتخلى عنها".
نضال القادري
العدد 1015 - الخميس 16 يونيو 2005م الموافق 09 جمادى الأولى 1426هـ