العدد: 224 | الخميس 17 أبريل 2003م الموافق 14 صفر 1424هـ
الدولة والمجتمع في النظام الاسلامي: علاقة متوازنة ومتبادلة ومتكاملة
يعمل الاسلام من أجل إقامة علاقة سليمة بين الدولة (بمعنى السلطة أو الحكومة) وبين المجتمع (أو الأمة أو الشعب)، وتقوم سلامة هذه العلاقة على أساس التوازن والتبادل والتكامل. والمعروف ان العلاقة بين الدولة والمجتمع احدى المسائل المهمة التي تواجهها المجتمعات، وتسعى من أجل إقامتها على أسس سليمة تضمن انسيابية العلاقة بما يؤمن استقرار المجتمع والحكم، وتعاونهما. فالتوازن يعني توزيع القوة بالتكافؤ بين الدولة والمجتمع، وعدم تغليب قوة الدولة على المجتمع، او بالعكس. ويتحقق التبادل بسبب وجود منظومة الحقوق والواجبات المتبادلة بين الدولة والمجتمع. فللدولة حقوق ازاء المجتمع، كما ان لها واجبات نحوه، ويقال الشيء نفسه عن المجتمع، اذ ان عليه حقوقا امام الدولة، وله واجبات ازاءها. اما التكامل فيعني ان مفردات الحقوق والواجبات وبقية تفاصيل العلاقة منظور لها ان يكمل كل طرف الطرف الآخر.
فالدولة تكمل المجتمع، والمجتمع يكمل الدولة. وتتضح ابعاد هذه العلاقة في النص الطويل التالي للامام علي (ع) الذي مارس الحكم والخلافة من موقف العلم والفقاهة، اذ كان أفقه صحابة رسول الله وأقضاهم، اذ يقول: «ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا ولا يستوجب بعضها الا ببعض. وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية. فاذا أدت الرعية الى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الاعداء. واذا غلبت الرعية واليها، او اجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثر الادغال في الدين وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الاحكام وكثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الابرار وتعز الاشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه» ويقول الامام علي (ع) في مكان آخر: «ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم عليّ حق. فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين أمركم». والواضح ان الامام علي يتصور في هذا النص حالتين من العلاقة غير السليمة، هما: الحالة الاولى، «اذا غلبت الرعية واليها»، وتعني هذه الحالة هيمنة المجتمع على الدولة، اذ يكون المجتمع اقوى من السلطة، وتكون كلمته، اما بالممارسة المباشرة او عبر الهيئات التمثيلية، اقوى من كلمة السلطة، التي لا تستطيع ان تفرض شيئا خلافا لرأي المجتمع. وتتراوح سلطة المجتمع في هذه الصيغة من حالة الى اخرى، وقد تبلغ ذروتها في حال تحلل الدولة او السلطة، اذ تكون السلطة اسما بغير مسمى، ولا تمارس أي سلطة او نفوذ على المجتمع، كما كان الحال في أواخر حكم السلطة العباسية إذ اصبحت الخلافة بلا حول او قوة. ان الامر قد يسوء هنا الى درجة اشعال فتيل حرب اهلية، او عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها ازاء المواطنين والوطن، فتنفلت الاوضاع ويضطرب الامن ويمطع الاعداء بالوطن والدولة. الحالة الثانية، «اذا اجحف الوالي برعيته» وتعني هذه الحالة هيمنة الدولة على المجتمع، إذ تميل الكفة لصالح الدولة، وتكون السلطة اقوى من المجتمع. وتتراوح قوة الدولة في هذه الصيغة من حال اخرى، لكن تبلغ ذروتها في الانظمة الفرعونية، او الدكتاتورية، اذ تكون قوة السلطة مطلقة في مقابل المجتمع الذي يفقد الحول والقوة امامها. والدكتاتورية والظلم يولدان ردود فعل عنيفة، فيلجأ المجتمع الأهلي أما الى العزوف عن الحياة العامة، فتسود السلبية، وإما الى العمل السري والمسلح من اجل رد رفع الظلم واسقاط الدكتاتورية. وفي الحالتين فإن النتيجة الكبرى تتمثل في ضياع الدولة والمجتمع معا، وهدر الطاقات وتعذر تحقيق أي إنجاز ذي شأن على اي مستوى من المستويات الحضارية التي تتطلع اليها عادة الشعوب والامم. ويحذر الامام علي (ع) من ان نتائج هاتين الصيغتين على حياة المجتمع كارثية، اذ يعدد بعضا من هذه النتائج، وهي: «اختلاف الكلمة، وظهور معالم الجور ويكثر الادغال في الدين وترك محاج السنن، والعمل بالهوى، وتعطيل الاحكام وتكثر علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الابرار وتعز الاشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد». يرفض الاسلام هاتين الحالتين معا ويدعو الى اقامة العلاقة المتوازنة والمتبادلة والمتكاملة بين الدولة والمجتمع، تلك العلاقة القائمة، كما قال الامام علي، على اساس «صلاح الولاة واستقامة الرعية». والسؤال كيف يحقق الاسلام هذه العلاقة المتوازنة والمتبادلة والمتكاملة بين الدولة والمجتمع؟ أولا، عبر الاقرار باستقلالية كل من الدولة والمجتمع عن بعضهما بعضا، مع وجود الروابط المتينة بينهما، خصوصا عبر منظومة الحقوق والواجبات المتبادلة والتكاملية بين الطرفين. ونستطيع تلمس الاستقلالية في بنائها العلوي في الكثير من الاحكام والانظمة والتعاليم الواردة في الاسلام. من ذلك على سبيل المثال التمييز في نظام الملكية الاقتصادية بين ما هو ملك للدولة وبين ما هو ملك للأمة، ووضع نظام الوقف الذي يضع قسما مهما من ثروة البلد ومرافقه في يد المجتمع الأهلي بعيدا عن تدخل الدولة وسلطاتها. ثانيا، من خلال مساواة الدولة والمجتمع في خضوعها لحاكمية الله التي تعبر عنها الشريعة الاسلامية. فالحاكم والمحكوم سواء في موقفها أزاء الشريعة في النظام الاسلامي، ولا يسوغ للدولة واشخاصها، ومؤسساتها ان تكون فوق الشريعة، أي فوق القانون. ونجد أروع مثال على ذلك في وقوف الحاكم والمواطن على قدم المساواة امام القاضي، الذي عليه ان يصدر الحكم ليس بناء على الوضع السياسي الاجتماعي للماثلين أمامه، وإنما على أساس الحكم الشرعي المحايد والذي لا يميز بين الحاكم والمحكوم. ثالثا، من خلال التحديد الصارم للموقف الدستوري للحاكم وللمجتمع معا. ففي النظام الاسلامي تكون الاولوية للأمة، أي للمجتمع، بوصفها هي المستخلفة في الارض، فالسلطان بموجب الاستخلاف الإلهي للأمة، وليس للحاكم او الدولة. وليس الحاكم سوى وكيل للأمة او نائب عنها في تسيير الامور وتطبيق القانون. وبناء على هذا الموقف تمارس الأمة ثلاث صلاحيات او حقوق هي: اختيار الحاكم، ومراقبته، وأخيرا إقالته اذا اخل بشروط الوكالة والنيابة. وتعطي هذه الصلاحيات قوة للأمة على الحاكم، ولكن من واجب الأمة ان تطيع الحاكم مادام لا يخالف الشريعة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا الواجب يعطي للحاكم قوة فوق الأمة. ولكن القوتين متوازنتان ومتكاملتان ومتبادلتان، كما قدمنا في صدر المقال
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/204550.html