العدد: 1723 | الجمعة 25 مايو 2007م الموافق 08 جمادى الأولى 1428هـ
مذكرات ماب... عن حياته في البحرين
النفط يصنع البلدان والمصير
فيما كنت أتابع نشرات الأخبار عن تداعيات غزو العراق للكويت في 1990، لمعت في ذهني فكرة طالما راودتني لسنوات وهي زيارة البحرين مرة اخرى بعد انقطاع طويل عنها، وذلك بعد أربعين سنة من مغادرتي إياها. قررت أن أسافر بعد انجلاء غبار الحرب، وانتهاء فصل الصيف القاسي. حملت معي عددا قديما من صحيفة «بحرين ايلندر» ومئات من الصور القديمة والوثائق التي جمعتها من أرشيف بابكو وأرشيف حكومة البحرين أثناء إقامتي في البحرين.
اشتريت تذكرة السفر وأرسلت موجزا بمهمتي إلى وزارة الإعلام في المنامة مع التمنيات بإيجاد سكن متواضع ولم يرد عليّ، لكنني توجهت إلى البحرين في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 1991.
عادتي هي أن أحاول الوصول إلى الأماكن الغريبة عند الساعة الثامنة صباحا، حيث يتيح لك أن تكون الأول في طابور مكتب السياحة لحجز غرفة وفطور الصباح. كان وصولي إلى البحرين على طائرة (KLM) في منتصف الليل بعد ليلة مضنية من السهر في مطار هيثرو ومعظم النهار في مطار أمستردام، ومن امستردام إلى البحرين عبر دبي، حيث وصلت مرهقا جدا.
لقد تغير مطار المحرق كثيرا من مطار صغير إلى مطار دولي كثير الحركة. لم أكن قد حجزت فندقا مسبقا، وقد استقر بي الأمر في فندق الشرق الأوسط. لكنه وبسبب التصليحات الجارية فقد انتقلت إلى فندق بريستول الذي أعرفه جيدا في شارع الشيخ عيسى.
كان المبيت في فندق بريستول كارثيا... الضجيج القادم من الديسكو حرمني من النوم، والمشاجرات في الشارع بين سائق التاكسي وبعض الزبائن السكارى وكذلك اصطفاف أبواب غرف الزبائن، وهم في طريق عودتهم إلى غرفهم في وقت متأخر في الليل.
عندما قاربت عيوني للنوم، نادى مؤذن مسجد القضيبية بالأذان، وهكذا حرمت لليال من النوم وعشت أياما من الأرق والقلق. في المساء رتبت مقابلة مع صحيفة تصدر باللغة الإنجليزية وفي الصباح توجهت إلى غرفة التجارة وهي مركز رجال الأعمال ونبض المنامة العاصمة. دخلت المقر وعرفت نفسي، إذ قادني رجل الاستقبال إلى مكتب العلاقات العامة المسئول الشاب عبد الهادي مرهون.
كان مهتما بالتاريخ ولذلك فقد ابتهج عندما أريته نسخة أصلية قديمة لمنشور للغرفة باللغتين العربية والإنجليزية يحدد واجبات وأهداف الغرفة للأعضاء. ومقابل ذلك فقد جمع لي طردا من منشورات الغرفة والحكومة.
تحدثت إلى مرهون عن معرفتي بعبد الرحمن الباكر، وعندها تساءل مندهشا هل تعرفه حقا؟ لقد كتب كتابا لا يمكن شراؤه في البحرين!... من تعرف أيضا. رددت بالقول « الوزان وكانو وحسن الجشي» .
تساءل هل تعرف حسن الجشي؟، قلت نعم أعرفه بالتأكيد، لقد كان مدير مدرسة المنامة الغربية وكان اشتراكيا أيضا» (...) تساءلت: هل لا يزال حيا؟ رد بالقول:» نعم بالتأكيد، ولديه مكتب علاقات عامة».
تشارلز بلغريف مرة أخرى
الأموات لا يتحدثون، لكن الأحياء هنا ألسنتهم مربوطة... خطر بذهني أن أرجع إلى مصادر لا يشك فيها، وكانت فرحتي لقراءة مذكرات بلغريف التي كتبها في الستينات والقليل من الناس لديهم نسخة خاصة لكتاب يحكي قصة غريبة ومحبطة. وعلى رغم انه سيرة ذاتية لرجل واحد إلا أنه يحوي أيضا قصص أناس آخرين.
صور تشارلز بلغريف من خلال مذكراته، الحضور البطولي والشخصية القوية بدنيا والمتفوقة معنويا والمشتركة في نطاق العائلة السعيدة. وفي حين أن الأب هو محام، فقد كان مقررا للابن أن يدرس «الاكليردس»، لكنه بدلا من ذلك تعلم في أكسفورد وأضحى إداريا وعسكريا وفارسا يأتي على ظهر حصان أبيض، حاملا معه الحضارة والتنوير والتقدم. ويبقى أن يسأل الإنسان نفسه، هل كان تشارلز بلغريف عملاقا بين أقزام؟
تشير مذكرات بلغريف إلى إعلان في صحيفة «التايمز» عن وجود وظيفة شاغرة في البحرين لكنني أشعر بأن هذه ليست الحقيقية لانتداب بلغريف في البحرين. مضت الأيام والسنوات لتنهي الحكاية بلغريف بنهاية مرة وجحود.
قبل ثماني سنوات كتب صحافي أميركي «انه لا المشاكل ولا النقد يحبطان بلغريف، كان مقتنعا أن 99.9 % من المقيمين في البحرين يؤيدونه سواء كانوا مواطنين أم أجانب... لكن المستقبل أظهر أنه ادعاء لا يستند إلى أي أساس.
يعتقد بلغريف أن المتآمرين والفاشلين حاولوا زعزعة سلطته، كان عليه أن يغادر البحرين في أوائل 1957 بعد الانتفاضة الشعبية التي انتهت بإعلان الطوارئ في ديسمبر / كانون الاول 1956،. اكتشف أنه مريض جدا ويتوجب عليه العلاج في إنجلترا، ويبدو أن مرضه قد تفاقم بفعل شعور متضخم بالعظمة فبعد تكريس أكثر من 30 عاما من عمره لخدمة البحرين، اكتشف أن البحريني ناكر للجميل، متبلد الحس، ساخر، مادي، لقد حقق الكثير من الإنجازات وفتح فرصا عديدة وجلب المنافع للناس الذين قابلوها بالجحود كما يعتقد.
لقد جادل بلغريف كثيرا بشأن أن البحرين ليست ناضجة للحكم الديمقراطي. وكان يحتقر مقولة الضمان المعيشي وذكر أن أصدقاءه يضحكون حين أدخل نظام البطاقة التموينية وتثبيت الأسعار خلال الحرب العالمية الثانية. يقول «كيف لمحافظ متحمس أن يطبق نظاما اشتراكيا؟
كان بلغريف مؤمنا بأن الدولة وحدها تستطيع تأمين الخدمات الصحية. وكان يرى أن الصحة قبل التعليم ومن وجهة نظره فإنه حتى بالنسبة لخريجي الجامعة الأميركية من البحرينيين فإنها فشلت في زرع روح الخدمة المدنية المخلصة والمنضبطة والممارسة والرياضة الدينية والانضباط الذي يميز المدارس البريطانية العامة. إن التعليم المحدود جعل البحرينيين غير مؤهلين للمهن المطلوبة والتعليم لم يجعلهم سعداء.
ويختم بلغريف مذكراته بالقول «أول ما يشاهده المرء عند دخول منزله صورة الشيخ المعلقة على الجدار لن ينسى مارجوري (زوجة بلغريف) واعتبار وكرم صديقي وسيدي الشيخ سلمان ومن قبله والده».
تبدو لي عبارة سيدي وكأنها مجتزأة من حكايات ألف ليلة وليلة، ولكنها تدل أيضا أن بلغريف كان يعيش واقعا معينا. لو كان الأمر يقاس بما يعتبره مكانته كواحد من المستشارين لكان في ميزان المكانة الاجتماعية، واحدا من الرعية مثله مثل غواصي اللؤلؤ أو زراع النخيل، لكنه غير ذلك.
تصلح حكاية بلغريف ان تنتج كمسرحية موسيقي، مستكملة الرسم، ولا حاجة لمزيد من الحوار بشأن مشكلة بلغريف في عدم قدرته التواصل.
وفي حديث شامل، لاحظ بلغريف أن موازنة الدولة العامة ارتفعت في عهده من 175 ألف جنيه إسترليني إلى ما يقارب 5.5 ملايين جنيه إسترليني سنويا. بعد ثلاثة عقود من قدومه إلى البحرين أشار بلغريف في العام 1959 إلى أن التأثير الغربي على البحرين كبير. هناك ست دور سينما تكتظ ليليا بالرواد، ويستقبل البث التلفزيوني في محطة ارامكو السعودية هناك ما يقارب 17 ألف سيارة تعج بها الشوارع.
هناك مجموعات من «الفلل» أقيمت على الطراز الغربي، أما اللباس العربي التقليدي فقد أضحى خارج الموضة في أوساط الشباب، البنات يتزوجن في سن 16-17 أو عندما ينهين الدراسة. أضحى الناس أفضل صحة، وبيوتهم مزودة بالكهرباء والماء وينتقلون في الحافلات أو على الدراجات بدلا من ظهور الحمير.
لو قدر لبلغريف أن يزور البحرين بعد 30 عاما لوجد أن التأثير الغربي أكثر انتشارا ولا يقتصر على إدخال التكنولوجيا الحديثة وجني ثمار الرأسمالية والفنادق الفاخرة وما يزيد عن 125 ألف سيارة، لكن البلاد بقيت منغرسة في العام الثالث من ناحية نهجها.
وقد تكون هناك مآخذ كثيرة على بلغريف لكن هناك شيء واحد سيخلده في البحرين، وهو باب البحرين الذي صممه بنفسه العام 1945 وهو عبارة عن بناء ضخم استخدم كمركز إداري ولا يزال البناء قائما كرمز للعمارة ذات المغزى.
توفي تشارلز بلغريف العام 1969، وعمل ابنه جيمس بلغريف لبعض سنوات في عوالي وأضحى لاحقا مديرا لمكتب عضو برلمان محافظ وهو مكتب علاقات عامة لصالح حكومة البحرين.
وتكمن المفارقة في كون جيمس الذي تربى في بيت محافظ أصبح مدمنا على الكحول، وتعرض للموت مبكرا كما زوجته التي توفيت باكرا.
ترك بلغريف وراءه يوميات ومذكرات محفوظة في مكتبة أكسفورد، لكنها لا تكشف الكثير عن حقيقة ما عاصره من حوادث.
حراس الأعلام
آلة الدعاية متعددة الأوجه... فهي تخبر الناس ما يريد من بيده السلطة أن يعرفوه وفي الوقت نفسه تحجب عنهم ما لا يجب أن يعرفوه من خلال الرقابة...ولا أدري كيف تقيس الحكومة رد فعل الناس في ظل غياب التفاعل واستطلاعات الرأي. هناك ملاحظة وهي وجود عدد كبير من العسكريين بأسلحتهم الجاهزة في مختلف مرافق وزارة الإعلام وهم بذلك يرسلون رسالة واضحة للمتعاملين مع الإعلام. إن مهمة وزارة الإعلام الرئيسية هي الترويج وضمان وجود شخوص الذين تروج لهم في عقول الناس وذاكرتهم.
الوجه الآخر من الرقابة الرسمية وجدتها في الرقابة الذاتية والتي يمارسها رؤساء التحرير والصحافيون والمحررون ما يجعل تغطية الحوادث مملة.
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/233745.html