العدد: 1325 | السبت 22 أبريل 2006م الموافق 23 ربيع الاول 1427هـ

أهالي قرية الأبواء يعجزون عن تحديد مكانه بدقة

رحلة بحث شاقة عن قبر أم النبي (ص) في الصحراء السعودية

على طريق الهجرة القديم بين مكة والمدينة تقع تلة جبلية شهيرة يتوسد قمتها قبر معروف طوال قرون، ظل المتعارف عليه بين الناس أنه ترقد فيه السيدة آمنة بنت وهب أم النبي محمد (ص).

وفي السنوات الأخيرة ثار جدل عن صحة مكان القبر، والأدلة الشرعية والتاريخية على وجوده، بعد أن نفى أهالي القرية وبعض المتدينين وجود دليل على صحة نسبة هذا القبر للسيدة آمنة، وخصوصاً أن كتب السيرة القديمة والمراجع التاريخية تؤكد أنها دفنت بين مجموعة قبور، بينما هذا القبر يقف لوحده في هذا المكان.هذا الجدل انتهى سريعا بعد أن قررت تلك المجموعة حسم الأمر بازالة القبر. ومن هنا تبدأ قصة رحلة البحث عن قبر أم النبي، التي كان قد بدأها الكاتب الصحافي عمر المضواحي في العام 2001 بحسب قوله لـ «العربية. نت».

بين الخوف والتردد يقف أهالي قرية الأبواء (180 كلم من المدينة المنورة) عند الحديث عن مرقد أم النبي (ص)، فهم لا يخالجهم أدنى شك أن السيدة آمنة بنت وهب لفظت أنفاسها الأخيرة في مكان ما من قريتهم العتيقة، المعروفة حاليا بـ «الخريبة» نسبة لتعرضها لسيل جارف أحدث فيها خرابا، في طريق عودتها من يثرب (المدينة المنورة) الى مكة، لكنهم يتوقفون كثيرا أمام تحديد المكان الذي دفنت فيه بدقة، ويلوذون عادة بالسكوت المطبق على الإجابة عن هذا السؤال الحساس.

وتعرف الأبواء الواقعة على طريق الحاج القديم بأنها محط القاصدين لزيارة قبر أم النبي (إلى الشمال من مدخلها الترابي) ويلتزم كثير من أتباع المذهب الشيعي الجعفري إلى مداومة الحضور وزيارة القرية كونها، إلى جانب الضريح، مسقط رأس الإمام موسى الكاظم (ع) (128 هجرية) حفيد سبط النبي (ص). وكان الحجاج والزوار يفدون إليها عادة في المواسم الدينية، وخصوصاً القادمين من الهند وباكستان وإيران وغيرهم للزيارة وهم محملون بالبخور ودهن الطيب على أنواعه.

الرسول مر بين مجموعة قبور بالأبواء

وبثقة واضحة يؤكد شيخ قرية الأبواء سالم المحمدي متحدثا إلى عمر المضواحي: «أن أم النبي (ص) دفنت في الأبواء، لكن القبر المشهور في أعلى الجبل لا يجوز نسبته اليها لكونه وحيدا في رأس جبل على عكس ما ذكرته كتب السير والتاريخ من أنها دفنت بين مقابر عدة»، مشدداً على أن «الثابت لنا أن الرسول (ص) مر بالأبواء مع نفر من أصحابه، ومروا بين مجموعة قبور ليقف على أحدها، قبل أن يخبر أصحابه بأنه قبر أمه آمنة بنت وهب».

سألته إن كان القبر المشهور مزعوما كما يؤكد فأين موقع القبر من القرية؟ أجاب بعد لأي شديد: «هناك مقبرة قديمة تعرف بمقبرة (أم عثمان) وهي أقدم مقابر القرية تاريخيا، لكنني لا أستطيع التأكيد أنها تضم رفات أم رسول الله (ص)».

رحلة طويلة إلى مقبرة أم عثمان

عزمت على دليلي (أبوسعد) العارف بكل تفاصيل المنطقة، أن يأخذنا الى مقبرة أم عثمان. تردد طويلا قبل أن يوافق. كنا خلال سبع ساعات متواصلة، قطعنا فيها كل أرجاء وادي الأبواء أحد أكبر أودية الحجاز التهامية، ووقفنا مرارا على شواهد تمثل جزءا مهما من بدايات التاريخ الإسلامي، وآثارا لآبار قديمة، ومساجد عتيقة، لم يبق منها سوى بضعة أحجار مرصوفة تحدد مكانها القديم الذي ورد بشأنها أن النبي محمد صلى فيها، ويطلبها الزوار لنيل شرف الاقتداء وبركة الصلاة فيها.

وقبل أن يتملكني اليأس بالوصول أشار «أبوسعد» بسبابة جافة، الى مقبرة قديمة في بطن الوادي وهو يقول: «بين هذه القبور القديمة يوجد قبر السيدة آمنة بنت وهب أم النبي (ص)، مؤكدا أنه لا أحد بين جنبات هذه الحرات من يعرف الموقع بدقة».

لم يكن هناك ما يشير الى أن ما نراه مقبرة قديمة، لولا بقايا حجارة عبثت بها صروف الزمن والإهمال، متناثرة هنا وهناك فوق هذا الجزء المفتوح من الوادي. والمقبرة لا تتميز بشيء عما جاورها من فضاء رملي تحفه شجيرات شوكية، سوى أن أعشابها وحشائشها أكثر اخضرارا أو هكذا تبدو للناظر.

وغني عن القول إنني فشلت تماماً في الحصول عن إجابة لسبب تسمية المقبرة بأم عثمان، أو من تكون هذه المرأة الأكثر شهرة من أم النبي، وكل ما حاولت السؤال يمط المجيب شفتيه ويهز كتفيه، كناية عن جهله بالأمر برمته.

تاريخ من حجارة

تتعدد المناطق الأثرية في القرية وخصوصاً في جانبها الجنوبي باتجاه مكة عند ما يعرف بـ «ريع هرشا» وهو جبل مرتفع يقطع طريق الحاج القديم. وتتملك الدهشة كل من ينظر إليه كيف تمكن السكان القدماء بأدواتهم البسيطة من حفر طريق بعرض نحو 8 أمتار في جبل بركاني صلد لتسليك طريق الحجاج، وزادوا عليه إنشاء جدار من الحجارة تعرف بالـ «رضم» رصت بعناية على جانبي الطريق تعلوها على ارتفاع نحو ستة أمتار تقريبا قشرة سميكة من الطين المخلوط بالتبن والحصى لحماية العابرين من تساقط الأحجار والأتربة فوق رؤوسهم.

ويؤكد «أبوسعد» كما يقول عمر المضواحي أن ريع هرشا كان أصعب مرحلة في طريق الحاج القديم، وفي سفح الجبل المتجه الى الشمال يوجد المسجد الأبيض مقام بالقرب من المكان الذي يعتقد سكان القرية أن النبي (ص) صلى فيه.

المكان الذي بات فيه النبي في طريق هجرته

يضيف المضواحي: تركنا ريع الهرشا خلفنا، لنتجه الى موقع يقال له «تلعة أبوصريحة»، وهو كما يؤكد الأهالي المكان الذي أناخ فيه النبي ركابه عند هجرته الى المدينة وبات فيه. وكالعادة لا يوجد ما يشير الى أهمية المكان وتاريخه، لكنه مازال محفوظا في صدور السكان يتناقلونه شفهيا جيلا بعد جيل.

مسجدان صلى فيهما الرسول في الأبواء

في مرعى كثيف الحشائش والأشجار، خلف جبل صغير جلس شيخ قرية الأبواء سالم يوسف عطية أبوجلي المحمدي يحتسي القهوة وحيدا على أريكة مفروشة بجلد الضأن.

وقص الشيخ حكايات وروايات عن قريته القديمة، التي يسكنها نحو خمسة آلاف نسمة، معظمهم من قبيلة حرب، والسادة. ويعمل غالبية السكان في الرعي والزراعة.

وينقل المضواحي ما دار من حديث بينه وبين الشيخ المحمدي والذي ورد فيه أن الأبواء تضم آثارا كثيرة، ومر بها الرسول (ص) وأصحابه مرارا، وفيها مسجدان ثبت أنه صلى في أحدهما في ريع هرشا، والآخر معروف بمسجد القرين الذي يقع في وسط القرية. كما ورد أنه اغتسل بها واهدي له حمار وحشي من أهل القرية.

وقال إنه قرأ في أمهات الكتب أن أول غزوة غزاها النبي في الإسلام كانت في الأبواء، بعد اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة، وكانت في شهر صفر ولم يقاتل فيها ولم يلق كيدا. ويقول إن النبي أقام بالأبواء بقية صفر وعاد في ربيع الأول، وكان لواؤه في هذه الغزوة أبيض اللون يحمله عمه حمزة بن عبدالمطلب، وتم الصلح في مكان يقال له «شعيب جاروه» وهو مكان معروف بهذا الاسم حتى الآن.

وأشار الى أن الكتب القديمة ذكرت أن النبي (ص) بات في مكان يعرف حتى الآن باسم «أم مريخة» وبعد ذلك ذهب الى «مزاح»، ثم الى مكان يقال له «أم كشنة» وبعدها دخل البساتين، ومن ثم راح الى «أم البرك» في طريقه الى «المسيجيد» وهذا الطريق هو خط مسار الهجرة القديم.

آخر الشهود الأحياء بشأن مكان القبر

ولم يخف الشيخ سالم المحمدي شعوره بأن طريق الهجرة القديم يعاني من الإهمال وهو بحاجة الى اهتمام أكبر وترميم لما نقض منه واندثر. وقال بحزن ظاهر: الآثار الموجودة في مدننا وقرانا تحتوي على كنوز أثرية كثيرة، وهي في انتظار اهتمام الجهات الرسمية، وخصوصاً أن طريق الهجرة مليء بالآثار والمقتنيات الأثرية التي تحتاج الى رعاية لاستثمارها في التعريف بالتاريخ الإسلامي.

يستطرد عمر المضواحي: طوال شهور من البحث عن أشخاص يعرفون عين المكان الذي دفنت فيه أم النبي، لم أستطع الوصول إلا لمعلومة من صديق عن رجل طاعن في السن يعيش مجاورا لبيت الله العتيق بمكة يعرف المكان كما يعرف تفاصيل خطوط يده، لكنه منعزل عن الناس، ولا يستقبل أحدا كونه عاجز عن الحركة. ولم تفلح محاولاتي بلقائه، وأخشى أن يكون آخر الشهود الأحياء عن مكان قبر السيدة آمنة بنت وهب


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/557957.html