العدد 1019 - الإثنين 20 يونيو 2005م الموافق 13 جمادى الأولى 1426هـ

الجهة الثانية

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

كنت قد قرأت مثلكم في الصحف قرار المحكمة الدستورية الذي قضى "بعدم دستورية" قرار الهيئة البلدية المركزية بشأن الرسوم الخاصة بالمحلات التجارية، بل انني علقت عليه في هذا المكان. وكنت قد بحثت قبل الشروع في كتابة ذلك المقال وهذا أيضا في الصحف اليومية الأربع عن القرار الاصلي للهيئة البلدية لكن دون جدوى.

فالصحف جميعها نشرت خبر حكم المحكمة الدستورية وزادت بتعليقات لمحامين وآخرين، لكن موضوع الحكم كله - اي قرار البلدية نفسه - لم تنشره حتى على سبيل التوثيق.

جيمع الصحف اشتركت في هذا واذا كان ذلك مؤشرا على قصور مهني، فإن الصحف البحرينية مثلها مثل جمهورها الذي تخاطبه تفترض ان الجميع يعرف هذا الموضوع ولا داعي للتذكير به حتى من باب التوثيق. كانت الارقام كافية لكي تذكرنا بأن جيلا بأكمله قد ولد بعد صدور ذلك القرار. فالذين ولدوا في العام 1978 او بعده بلغوا الآن السابعة والعشرين ومواليد 1980 على افضل تقدير بلغوا الخامسة والعشرين.

لكن الصحافيين ليسوا وحدهم، فعندما تسأل موظفة المركز الصحي في منتصف المهمة عن بقية إجراءات استخراج شهادة اللياقة الصحية للمدرسة، لا تتعجب اذا شاهدتها منفعلة من سؤالك.

فالموظفون البحرينيون يتعاملون مع إجراءات عملهم اليومي على افتراض ان البحرين كلها تعرف هذه الاجراءات لسبب مخادع تماما: كثرة المراجعين. تلك الموظفة في المركز الصحي رسمت ملامح استنكار على محياها عندما سألتها عن اجراءات استخراج شهادة لياقة صحية لأحد ابنائي قبل دخوله المدرسة. بل انها طرحت استنكارها علانية بالاسلوب الشهير لنسائنا: "وويي... احد ما يعرف اشلون ايطلعون الشهادة؟". كان لابد من التوضيح والحجاج قليلا: اختي لماذا تفترضين ان الجميع يعرف الاجراءات؟ ربما كان هذا ابني البكر ثم ان المرة الاخيرة التي استخرجت فيها مثل هذه الشهادة كانت قبل ثلاث سنوات وكان مكتبك هذا في الطابق الاعلى؟

الوجه الآخر لهذا هو خلو اماكن العمل والمرافق التي يقصدها الجمهور من اي توضيحات او ارشادات توضح الاجراءات والمستندات المطلوبة او الرسوم التي يتعين دفعها.

تقصد الفندق ذا المداخل الاربعة وتسأل رجل الأمن عن المدخل المصرح لك بالدخول منه ستجد الغموض نفسه: "الجهة الثانية". يقولها من دون ان يكلف نفسه عناء كلمتين اضافيتين تشرح لك المقصود، فاذا كنا في المدخل الشرقي، فإن الجهة الثانية ستعني ثلاث جهات اخرى: شمال، غرب، جنوب. لكن البحرينيين نادرا ما يشعرون بالحاجة الى الدقة، فهي في الثقافة العامة السائدة مازالت مقابلا للتكلف.

ذات يوم سألت احد المحررين عن معنى مفردة وردت في خبر كتبه ووضعه امامي للنشر. اجابني دون تردد وبهزة كتف: "اشدراني أنا... هو قالها وانا كتبتها". لم يكن امامي الا ان اقول لهذا المتذاكي: اذا لم تفهمها انت فكيف تتوقع ان يفهمها القارئ؟ تطلب الامر مخاطبة اثنين من المختصين لتفسير المفردة معنى المفردة للقراء.

على شاكلة ذاك المحرر يسير الجدل في كل الميادين تقريبا. تلك الخاصية اعطت صحافتنا طابعها اللاهث وطريقة عمل بلا ذاكرة. واعطتنا مفردات متكررة مثل اللازمة في خطاب سياسي بات شائعا. وفي ميدان الخدمات الصحية حولت مركزا طبيا متقدما الى عيادة كبيرة ذات اجهزة متقدمة وكوادر مؤهلة تعمل بطريقة التسيير اليومي. وفي كل من الصحف والسلمانية تبين التأثير الاكبر في الارشيف. فلا الصحف تضع خلفيات لأخبارها بل تعيد انتاج الخبر نفسه كل مرة وكأنه يحدث للمرة الاولى، ويكتبون عن عائلات بلا مأوى وكأن المشكلة لم تكتشف الا للتو. اما الخدمات الصحية فإن الملفات تبدو فيها اقرب للعبء غير الضروري.

اما في الحياة اليومية فقد اثمرت كل ذلك التوتر الذي ينتابنا كلما قادتنا اقدامنا الى دائرة حكومية او مرفق للمراجعة. فنحن نتوتر سلفا لاننا نتوقع جملا مقتضبة مثل "الجهة الثانية" أو "ذاك الصوب" أو حتى غضبة من موظف. وهم يذهبون الى اعمالهم متوترين اصلا لانهم يدركون سلفا ما ينتظرهم: طوابير من المراجعين المتوترين

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1019 - الإثنين 20 يونيو 2005م الموافق 13 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً