العدد 1082 - الإثنين 22 أغسطس 2005م الموافق 17 رجب 1426هـ

أوه... هؤلاء الشباب

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

هل قرأتم يوما اشارة للشباب بعيدا عن "عماد المستقبل" أو "الطيش والتهور"؟ النوع الاول من الاشارات غير ذي معنى لانه لازمة لغوية لا اكثر، اما النوع الثاني من الاشارت فهو المعنى الوحيد الملازم للشباب وبأكثر الصيغ العملية في حياتنا.

فنحن لا نشكو الا من طيش الشباب وتهورهم وقابليتهم للانحراف والعطب وهم وقود اي نوع من الاختلال: مخالفة القانون بالمعنى الاعم للكلمة، الشغب الاجتماعي أو السياسي وابسط اشكال العنف اللفظي والبدني. مخربون للنواميس والاعراف وكل ما هو غير مألوف سيأتي منهم.

قبل ايام، كانت السيارات تنتظر الاشارة الخضراء كي تتحرك، وفي المسار الاوسط كان شاب يقود دراجة نارية ينتظر بدوره. ما ان سارت السيارات بتثاقل الا وكان الشاب قد سبقهم بامتار ورفع مقدمة دراجته وسار بها على العجلة الخلفية في مشهد بات اليوم طبيعيا ومتكررا في شوارع البحرين. الحق انني استغرقت في الضحك لهذا المشهد. فالفارق بين الالتزام بالقانون "انتظار الاشارة" وبين الاستعراض دقائق وليس هذا ما اضحكني فحسب بل منظر الشاب وهو يسير على عجلة واحدة كأنه يقود حصانا يجري على قوائمه الخلفية وكأنه طليعة هجوم.

لكن الدراجات النارية والسيارات وسباقات السرعة هي اكثر من طيش، فقد غدت ثقافة بحد ذاتها ولربما ايقونة تمرد الشباب هذه الايام. لقد تغيرت ايقونات التمرد لدى الشباب طيلة الخمسين عاما الماضية وراوحت مابين الموسيقى والسياسة والغرق في المخدرات ايضا.

ففي ستينات القرن العشرين الماضي، كانت الموسيقى هي اداة التمرد. ثورات الشباب التي بدأت منذ خمسينات ذلك القرن بتمرد المطربين الشبان على الالوان الموسيقية السائدة وتحطيم قواعدها وهو ما بدأه الفيس بريسلي مع الروك اند رول، اتسع مداه واخذ ابعادا اكثر جدية وشمولا في انحاء العالم. لقد كانت الثورة في الموسيقى عنوانا لثورة اجتماعية شاملة قادها الشباب في ذل الوقت بلغت احدى ذرواتها الكبرى في ثورة الطلاب العام 1968 في فرنسا وبلدان اوروبية اخرى. وامتدت تأثيرات هذه الثورة الى نشوء الحركات المناهضة للحرب في الولايات المتحدة واوروبا. وكانت مظاهرات مناهضي الحرب والصدام مع قوات الشرطة في الشوارع هي المشاهد التي خلدت عقدي الستينات والسبعينات في الولايات المتحدة.

ان ما يبدو اليوم ذكريات لجيل أو جيلين من البحرينيين، مستمر طالما اننا نتحدث عن الشباب وابرز ما يميزهم: التمرد. واذا كانت اشكال التمرد قد اختلفت أو تغيرت مهما كان تقييمنا لها فهي لاتزال تقدم المعنى والمدلول نفسه: الشباب دائما في الهامش.

بقيت الموسيقى احد اهم اشكال التمرد، لكن اهميتها تراجعت الآن وتمرد الشباب يبدو اليوم اقرب للمحاكاة منه الى حركة واعية، اقله هنا وفي بلدان عربية أخرى. وايا كانت النظرة لهذا، فإن السيارات وسباقات السرعة حلت الآن محل الموسيقى من دون ان تلغي معنى التمرد نفسه.

ذات يوم كنت انتظر دوري في صالون الحلاقة وبقربي استغرق ثلاثة شبان في حديث واحد. كانوا يقيمون مهارات اصدقائهم ومعارف لهم في قيادة السيارات، وكان التقييم من التفصيل بحيث انه وصل الى حد وضع فارق واضح بين ان تكون سائقا جيدا ومتسابقا جيدا. وبحسب احد هؤلاء الشبان فإن "ابراهيمو"... "Good bicker but not good racer". يقصد ان ابراهيم سائق جيد لكنه ليس متسابقا جيدا.

بالامكان ان نشيح بوجوهنا عن ملاحظة عارضة مثل هذه لولا ان سباق السيارات والدراجات النارية غدا مشهدا يوميا ومألوفا لدينا. ولولا انه له اماكنه الخاصة التي اختارها الشباب ولولا ان افتتان الشباب به اخذ في التوسع ليشمل حتى صغار المراهقين والاطفال أيضا.

لكن هذا مظهر وحيد شاخص، واستقراؤه بدقة سيقودنا الى وضعه في اطاره الطبيعي دونما مبالغة لان وراءه صناعات كبرى وعملاقة تغذي هذه النزعة الاستهلاكية. ولن يخطىء المرء في ان يلمس مكونات ثقافة اميركية رائجة تغذيها هوليوود بدأب ومثابرة. المعنى الوحيد الباقي في كل هذا هو الميل للتمرد لدى الشباب.

لكن هذا الميل ليس له شكل واحد، واذا كانت الدراجات النارية وسباقات السرعة احد مظاهره، فإن هناك مظاهر اخرى قلما تسترعي الانتباه أو التوقف.

في التسعينات، كانت المسابقات المسرحية الكثيرة تفصح عن ارهاصات اخرى لتمرد جيل الشباب. لكن التعبير هنا يتم بشكل جاد وراق من باب الثقافة والفن ويمضي اكثر في طرح اسئلة الانسان والوجود والبحث عن قيم الخير والعدالة والجمال. تلك لم تكن ارهاصات لنخبة لان المسابقات كانت من الشمول والاتساع بحيث انخرط فيها شبان وشابات من كل مناطق البحرين، فقد كانت مسابقات اندية على المستوى الوطني ومسابقة خاصة لاندية الريف ومسابقة اخرى كان ينظمها مسرح الصواري.

في احد المهرجانات، دونت عبارة موحية على غلاف كتيب مهرجان الصواري: "المسرح بوابة هذا الجيل". ولم تكن عبارة كهذه لتخرج من ذهن واضعها لولا ان قوة الايحاء كانت تأتي من هذا الاندفاع من جيل شاب نحو المسرح كوسيلة للتعبير.

بالامكان المضي قدما في استعراض نماذج واشكال أخرى لارهاصات تمرد الشباب ومغايرتهم بحيث تشمل حتى مقتحمي شبكات الانترنت "الهاكرز". فهؤلاء متمردون بشكل آخر. والعبرة الباقية في النهاية هي نفسها: كيف نقابل هذا كله وماذا نفعل من اجلهم؟ وهذا كله لا يفعل سوى ان يدفعنا الى ادراك ضرورة مراجعة ثقافة عامة سائدة لاتزال تضع الشباب اما لازمة خطابية أو عنوانا للطيش والتهور

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1082 - الإثنين 22 أغسطس 2005م الموافق 17 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً