العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ

الإنسان في الفكر الإسلامي الكلاسيكي

يصعب على الوظيفة النقدية التي أنجزتها العلوم الإنسانية أن تجد لها طريقا واضحا في الموضوعات المتعلقة بالفلسفة أو الدين، لأن الباحث في تلك الميادين تعود إليه مسئولية منح اللغة ما تقوم به الوظيفة النقدية هذه، عندما تدعو الفكر إلى التأمل والتفكير في قضاياه. ويُشَكّل التأويل محورا مهمّا في فهم الخطاب، فالتأويل ينطبق ليس فقط على التراث الشفهي وحسب وإنما على ذاك المخزون الهائل الذي وصل إلينا عبر التاريخ بأكمله. ومن منطلق دراسة التراث التأويلي المتعلق بمفهوم «الإنسان» في سياق الفكر الإسلامي كان السؤال المحوري هو: ما هو الشيء الذي يُعطي المشروعية في تأويل «الخطاب» سواء كان هذا الخطاب «مقدسا» أم لا، ولماذا هو حكر على أشخاص معيَّنين دون غيرهم بدعوى أنهم يمثلون كلّ «الإسلام» وأهله، ومن هو الذي أعطى للفقيه أو المفسر ولاية؟

يصعب على الوظيفة النقدية التي أنجزتها العلوم الإنسانية أن تجد لها طريقا واضحا في الموضوعات المتعلقة بالفلسفة أو الدين، لأن الباحث في تلك الميادين تعود إليه مسئولية منح اللغة ما تقوم به الوظيفة النقدية هذه، عندما تدعو الفكر إلى التأمل والتفكير في قضاياه.

ويُشَكّل التأويل محورا مهمّا في فهم الخطاب، فالتأويل ينطبق ليس فقط على التراث الشفهي وحسب وإنما على ذاك المخزون الهائل الذي وصل إلينا عبر التاريخ بأكمله.

ومن منطلق دراسة التراث التأويلي المتعلق بمفهوم «الإنسان» في سياق الفكر الإسلامي كان السؤال المحوري هو: ما هو الشيء الذي يُعطي المشروعية في تأويل «الخطاب» سواء كان هذا الخطاب «مقدسا» أم لا، ولماذا هو حكر على أشخاص معيَّنين دون غيرهم بدعوى أنهم يمثلون كلّ «الإسلام» وأهله، ومن هو الذي أعطى للفقيه أو المفسر ولاية؟

ولعل الوعي التاريخي هو الذي يميز الإنسان الباحث اليوم لأنه يمتلك وعيا بتاريخية كلّ حاضر وبنسبية كلّ الآراء، الأمر الذي يجعلنا نرفض متابعة التراث بصورة ساذجة، أو الاستسلام إلى حقائق «عريقة» اتفق عليها أناس معيَّنون في وقت من الأوقات، ثم قُدّمت إلينا على شكل مسلّمات غير قابلة للنقد، ومازال الكثير من «رجال الدين» حتى اليوم يرفعون شعار الوقوف عند اجتهادات علماء القرن الرابع الهجري، كما أن بعض المفاهيم تخضع الى تحديدات جازمة في شتى مجالات الفكر ولاسيما الإسلامي منه، في حين أن الوعي الحديث بصفته «وعيا تاريخيا» يتطلب منا أن نتخذ موقفا تفكيريّا نقديّا بالنسبة إلى كل ما يسلّم له عبر التراث.

وإذا ما وقفنا عند مفهوم «الإنسان» في سياق الفكر الإسلامي، الذي تشكَّلت من خلاله الممارسات عموما عند الإنسان العربي فيما بعد، نجد أنّ الإنسان الذي احتفت به نصوص القرآن والسنّة قد خضع الى تحديدات شتى في مجال الفكر، الأمر الذي أدّى إلى غياب الإنسان بمفهوم «الكائن المجتمعي»، وأنّ جلّ التحليلات المنصبّة على الخطاب الإسلامي في بعده الإنساني تشكلت من خلال طرائق فهم المسلمين للخطاب الإلهي، وهذه التأويلات للنصوص جاءت محصلة لتفاعل هذا «الخطاب» الإلهي مع الواقع التاريخي والاجتماعي وعكست «التوتر المستمر» بين المثالي والواقعي.

ويمكن أن نلتمس في إطار الفكر الإسلامي الكلاسيكي الصياغات التي تشكلت حول مفهوم «الإنسان» من خلال مجموعَةٍ من العلوم أبرزها: الفقه، علم الكلام، الفلسفة، التصوّف، أما في سياقات العصر الحديث التي تشكلت منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا فقد كان لمفكري حركات الإسلام السياسي المعاصر الأثر العميق في تقديم الصورة بشأن مفهوم «الإنسان» التي انبثقت من خلال الأطروحات الفكرية المرتبطة بسياق المشروع السياسي.

الإنسان عند الفقهاء

فإننا نجد أن الفقهاء جعلوا من الإنسان ذاك «المكلّف»، المطيع للأوامر المجتنب للنواهي، وهو في الفقه القانوني موضوع الواجب «الفرائض» والممنوع «المحرمات»، وإذا كانت القوانين الفقهية تستمد مرجعيتها من النص التشريعي، إذا من يفرض القانون هو إرادة تعلو على إرادات، وقد عمد بعض الفقهاء من فقهاء السلاطين عبر العصور إلى تفسير هذه النصوص والتي تبدو إلزامية فيما بعد بحق شرائح المجتمع الأخرى، ووضع الأطر التي من شأنها أن تؤسس وتسمح لـ «ولاة الأمور» بممارسة شتى أنواع الطغيان على الرعية التي من شأنها أن تقدم فروض الطاعة والولاء، لذلك فقد تكونت طبقة من «ولاة الأمور» تمثل إرادة القوى المجتمعية المسيطرة التي تمتلك أدوات الهيمنة والتي تبدأ من ملكية وسائل وأدوات الإنتاج مرورا بإنتاج الايديولوجيا، معتمدة على القانون كأداة للسيطرة والإمساك بزمام الحكم وتسيير شئون البشر.

إذا فطبيعة الحال هذه تجعل من الأطر القانونية الخاصة بالإنسان هذا ساحة «الطاعة»، وهذا أدى مع مرور الوقت إلى خلط الديني بالاجتماعي كما أدّى إلى التمييز بين الأفراد بسبب الدين.

الإنسان عند المعتزلة

تُعدّ حرية الإرادة الإنسانية المبدأ الجوهري الذي يؤسس للنسق الفكري عند المعتزلة، لذلك فقد كان لمفهوم «العقل» عندهم معيارا موضوعيّا لتحديد قيمة الإنسان اجتماعيا ودينيّا، فقد حاول المعتزلة التركيز على «الإنسان» المفكّر بهدف محاربة العنصرية، وقد شكّل المعتزلة في زمانهم موقفا حداثيّا اجتماعيا، أدّى بهم إلى التأكيد على حريّة الإرادة عند الإنسان واعتبروها البرهان على وجود الخالق ودليلا على العدالة الإلهية.

غير أن إعلاء شأن العقل البشري معرفيّا لا يعني في نظر المعتزلة الإعلاء المطلق من شأن الإنسان في سلم الكائنات المفكرة، فالناس لا يتفاضلون فيما بينهم إلا بالقدرة على استثمار قوة «العقل الضروري» للوصول إلى مرحلة «العقل النظري»، الذي من خلاله يصل الإنسان إلى معرفة الخالق وتوحيده، وبما أن الملائكة من وجهة نظر المعتزلة يتمتعون بالمعرفة الإلهية وهبا فهم أعلى مرتبة من الإنسان. وهذا أدى إلى أن المعتزلة انصبت أحكامهم على الإنسان بصفته الاجتماعية لأنه القادر على المخالفات ومعصية الأوامر الإلهية وهو الكائن الوحيد الذي خُلق حرّا غير مُجبرا، فحتى الأنبياء من وجهة نظرهم ليسوا معصومين عن الخطأ إنما هم معصومون عن ارتكاب الكبائر لا غير.

إن تركيز المعتزلة هذا على الجانب «المعرفي العقلي» للإنسان لمحاربة العنصرية، أدى بهم إلى وضعه في مرتبة أدنى من الملائكة الأمر الذي طرح إشكالية محورية في الفكر الإسلامي الفلسفي فيما بعد.

الإنسان عند الفلاسفة

تُعد المعرفة السبيل الوحيد لبلوغ الماهيّات عند الفلاسفة سواء عند الفلاسفة العقليين منهم كابن رشد والكندي أو عند الإشراقيين منهم مثل ابن سينا. فالعرفان هو الطريق إلى إدراك الغايات والماهيّات من خلال التأمل الباطني العقلي عبر «العقل الأول»، سواء كان هذا العقل استدلالي عند العقلانيين، أم كان «الخيال» كطريق للصفاء عند الإشراقيين من الفلاسفة، وسواء كانت المعرفة «وهبية» هبة من الخالق أم كانت «كسبية» أي اكتسبت بالتعلم والاستدلال. ومصدر هذه المعرفة عقل كبير أطلق عليه الفلاسفة اسم «العقل الاول الفعّال» فهو أولا لأنه أول الإبداعات والفيوضات الإلهية التي ظهرت في الوجود عن الله كما انه فعَّال بوصفه علّة لكل ما يحدث في العالم.

ويتصل الإنسان بالعقل الفعال الأول هذا عبر «الاستدلال» عند فلاسفة العقل و «بالخيال» في أرقى مستويات الصفاء عند فلاسفة الإشراق، وكل ذلك بهدف استمداد المعرفة الكاملة.

إذا الإنسان عند الفلاسفة أشبه ما يكون بنبي مرسل وليس ذاك الإنسان العادي الاجتماعي، فعلى رغم اختلاف ابن رشد والغزالي العميق والجذري بين فكريهما، فإننا نجد أنهما اتفقا على تقسيم البشر إلى نُخب «الخاصّة» وعامّة «العوام»، وهكذا فإن قيمة الإنسان عند الفلاسفة تتحدد طبقا لمستويات الوعي المعرفي، وبناء عليه فإن على «العوام» الأقل معرفة أن يقوموا بتقليد «الخواص» الأكثر معرفة، والتي وصلوا إليها إما عبر «الاستدلال والبرهان» وإما عن طريق «الإلهام والخيال».

هذا الأمر أدى مع الوقت إلى تكريس التقسيم الاجتماعي للبشر كما أدى إلى تزايد تأثير قوة «المثقف النخبوي» والسلطات السياسية، وهذا التنامي في قوة العقل بين «الثقافي» و «السياسي» أوصل إلى إضفاء السلطة على المعرفة، فاحتل «العارف» سلطة في الواقع المجتمعي إلى جانب السلطات الأخرى كسلطة «الشوكة» السلطة العسكرية، وسلطة «المال».

الإنسان عند المتصوّفة

لعل محيي الدين ابن عربي الأندلسي أحد أبرز المتصوفة الذين استطاعوا أن يبلوروا ممارستهم عبر منظومة فكرية واضحة، فقد صاغ نظرية حول الإنسان عبر أطروحته «الإنسان الكامل» التي تتفق مع رؤية شريحة كبيرة من المتصوفة، يشكل الإنسان «التجلّي الأكمل» والأشمل من حيث الطبيعي والإلهي خصوصا على المستوى الوجودي، وذلك من خلال انعكاس أو ظهور الأسماء الإلهية والحقائق الكونية في صورة الإنسان الأمر الذي يجعل من البشر العنصر الوحيد القادر على التوصّل إلى «العرفان» المعرفة الكاملة الشاملة، فالإنسان عند ابن عربي محور مهم بحكم تمييز طبيعته، فالإنسان في الفكر الإسلامي الصوفي هو الإنسان «العارف» المتحقق بالمعارف الإلهية التامّة الكاملة، وهذا الإنسان هو معيار الحقائق وميزانها لأنه هو «الكمال».

ويعد آدم التجلي الأكمل على المستوى الوجودي بسبب ظهور الأسماء الإلهية والحقائق الكونية في صورته، الأمر الذي يقرر أفضلية الإنسان على الملائكة وخصوصا أن الإنسان هو الوحيد القادر على التوصل إلى العرفان الكامل. فالإنسان في الفكر الصوفي هو «العارف» المتحقق بالمعارف الإلهية التامة الكاملة بنفسه وبالوجود وبالألوهة وهو معيار الحقائق لأنه هو الكمال.

في هذا النسق الصوفي العرفاني لا مكان للإنسان غير العارف أو العادي، ويبقى غير العارف في رتبة «العوام».

خلاصة

إنّ الفكر الإسلامي الكلاسيكي بمجمله لا يختلف في هذه الجزئية عن الفكر الوسيط المنبني على تقسيم البشر إلى طبقات «خواص» و «عوام»، لقد غاب الإنسان الاجتماعي غير المطيع أو الجاهل عن الفكر الإسلامي الأمر الذي أدّى إلى نفي المسلم وغير المسلم على حدٍّ سواء، كما أدى ذلك إلى جعل «الطاعة» المعيار الوحيد للإنسان.

كما حاول الحكام خلال الدول الإسلامية المتعاقبة إلى استثمار العلماء والفقهاء للسيطرة على «العامة» من خلال «الخداع الايديولوجي» وجعل المنطق «الجبري» تبريرا للممارسات القمعية، أما من لم يستجب من العلماء لأوامر السلطان فقد دفع ثمن رفضه وحرصه على استقلاله تعذيبا وسجنا.

لقد تحوّل الفكر الإسلامي تدريجيا مع مرور الزمن من موقع «الفاعل» في صناعة الواقع وصوغه وترشيده ونقده إلى موقع «المبرر» لهذا الواقع والمدافع عنه وذلك عبر إضفاء مشروعية لاهوتية له وغطاء أيديولوجي عليه.

فحين ينتقل النص من طوباويته ومثاليته إلى المجال الفكري تتدخل الانحيازات الفكرية والتعصبات المذهبية فيُمارس الإقصاء والاستبعاد، وحين يمارس الفكر على أرض الواقع المجتمعي فإنّ حدة الاستبعاد تزيد لأسباب سياسية تتخفى وراء مبررات دينية.

* كاتبة لبنانية

العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً