العدد 1627 - الأحد 18 فبراير 2007م الموافق 30 محرم 1428هـ

الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون ( -8 10 )

وبحكم أن هذه المقطوعة جاءت من بادية حوران شمال الجزيرة العربية، فهي بذلك تكون أقرب النماذج إلى ما نسميه الآن بالشعر النبطي، ويمكن اعتبارها نموذجا جيدا يمثل بدايات الشعر النبطي، ويعكس اللغة الشعرية بين بدو الجزيرة العربية في طور انتقالها من الفصحى إلى العامية. وبقياس الماضي على الحاضر؛ فإن في حوران وإلى عهد قريب شعر لا يختلف عن شعر البادية في الجزيرة العربية إلا بقدر ما يمليه اختلاف اللهجة. وقمت في العام 1993م بزيارة إلى منطقة السويداء وجبل العرب في سورية وجمعت من هناك أحاديث وأشعارا، ما يدخل في صميم الموروث النبطي/ البدوي في تعريفه الشمولي.

ونحن لا نعرف متى قتل الرجل الذي رثته زوجته الحورانية، لكن من المحتمل أن ذلك حدث قبل زمن ابن خلدون بفترة غير قصيرة. وبذلك تكون هذه المقطوعة من أقدم النماذج التي وصلتنا من الشعر العامي من بادية الجزيرة العربية، وهي تقدم برهانا قاطعا على أنه في القرن الثامن الهجري، عصر ابن خلدون (732 - 808 هـ)، كانت العامية قد طغت وأصبحت لغة الشعر في الصحراء العربية وبادية الشام. وشيوع التسميات "قيسي" و"وحوراني" و"بدوي" بين أهل المشرق، كما يقول ابن خلدون، يفيد تفشي هذا الشعر الملحون قبل وقت ابن خلدون بين أبناء القبائل البدوية في شرق الجزيرة وشمالها، وبادية حوران هي المنطقة الفاصلة بين شمال الجزيرة وبلاد الشام.

ونسبة الشعر إلى قيس وحوران قد لا تخلو من دلالة لها أهميتها. فمن المعروف لدى علماء العربية: أن منطقة حوران في شمال الجزيرة العربية ومنطقة البحرين في شرقها، حيث تسكن قبائل قيس، من مناطق الأطراف البعيدة عن مناطق الفصاحة القحة، والاستشهاد اللغوي في قلب الجزيرة العربية. فمنذ أيام الجاهلية، كانت لغة عرب تلك المناطق لا يحتج بها ولا يعدون من العرب الفصحاء بمقاييس النحويين القدماء وعلماء اللغة الكلاسيكيين. وتدل الشواهد على أن اللحن بدأ يتفشى في عربية سكان تلك الأطراف قبل نجد ووسط الجزيرة، وكان كلامهم أسرع في التحول من النسق الفصيح إلى النسق العامي، ولكن هذا لا ينفي أن أصل الشعر النبطي عربي، وأنه امتداد للشعر العربي القديم، ولا يمت للأنباط بصلة؛ لأن القبائل التي جاءتنا منها أقدم نماذجه قبائل عربية وليست نبطية، وإن "فسدت" لغتها. هذا عدا كون هذه النماذج تمثل مرحلة انتقال طبيعية متدرجة من الفصحى إلى العامية. ويؤكد ابن خلدون: أن حوران من منازل عرب البادية ومساكنهم، بمعنى: أنه حتى لو جاء هذا الشعر من منطقة حوران التي تقع على أطراف العراق ومشارف الشام، فإن من يتعاطونه وينظمونه ويتغنون به هم من عرب البادية الأقحاح وليسوا من الأنباط ولا من شعراء الحاضرة. كما تشير المسميات "قيسي" و"بدوي" إلى عروبة هذا الشعر وأعرابيته، فلا أحد يشك في بداوة قبائل قيس ولا يطعن في انتمائها إلى الجنس العربي.

خواطر ختامية: وفي الختام لنا أن نتساءل عن حقيقة العلاقة اللغوية والأدبية بين المقطوعات الهلالية في المقدمة، وبين بدايات الشعر النبطي؛ إذ ليس هنالك ما يشير ولو من بعيد إلى أن عرب الجزيرة على علم بها، ولا نعلم أنه كانت هناك وسائل اتصال مباشر بين بدو المشرق وبدو المغرب، وما ينتج عن ذلك من عمليات التثاقف والاحتكاك. لكن هذا لا ينفي وجود الشبه بين المقطوعات الشعرية الهلالية التي أوردها ابن خلدون، وبين شعر بادية الجزيرة العربية في ذلك الوقت. لو تمعنا في أقدم النماذج التي وصلتنا من الشعر النبطي وقارناها بنماذج الشعر الهلالي التي أوردها ابن خلدون لوجدنا تشابها ملحوظا في اللغة ونظام القوافي والعروض، ولوجدنا أنها كلها قيلت على البحر المشتق من الطويل الذي يسميه أهل نجد الهلالي، وهذه التسمية يطلقونها على كل ما هو قديم موغل في القدم (كانت نظرة أهل نجد المتأخرين إلى بني هلال لا تختلف عن نظرة العرب القدماء إلى قوم عاد).

إلا أن هذا التشابه في نظري لا يعني: أن الشعر الهلالي الذي ورد في مقدمة ابن خلدون هو الأصل الذي نشأ منه الشعر النبطي، لكنه يعني: أنهما فرعان انحدرا من أصل واحد... هو الشعر العربي الفصيح، وأنهما سارا في بداية نشأتهما وتطورهما في طريقين متقاربين متوازيين، ثم بدأ يتباعدان شيئا فشيئا من حيث اللغة والشكل والوظائف والمضامين حتى افترقا؛ ليتحول أحدهما فيما بعد إلى ما نسميه الآن الشعر النبطي. أما الفرع الآخر الذي ترعرع بين بني هلال في المغرب العربي، فإنه انقسم بدوره إلى شعر قصصي يمثل بدايات السيرة الهلالية، وشعر ذاتي تاريخي يمثل البذرة التي نبت منها الشعر الملحون الذي ابتعدت لغته كثيرا عن لغة الشعر النبطي.

العدد 1627 - الأحد 18 فبراير 2007م الموافق 30 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً