العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ

«الأبارتهايد» جعل جنوب إفريقيا جنة للأقلية وجحيما للغالبية

مانديلا ضرب مثالا للنضال الموجع من أجل الحرية ضد نموذج قبيح للعنصرية

كانت «جمهورية اتحاد جنوب إفريقيا» أسوأ أمثلة التفرقة العنصرية البغيضة، إذ حكم 4 ملايين من البيض، 29 مليونا من غير البيض، وفقد هذا الاتحاد وحدته قبل أن يولد، وأصبح جنة الأقلية، وجحيم الغالبية.

سلكت الأقلية البيضاء سياسة عزل الغالبية غير البيضاء في مناطق تتسم بالفقر والجدب، حيث المعازل، وأمعنت سلطات البيض في جنوب إفريقيا في سياسة التفرقة العنصرية وتمادت في تطبيقها، ما جلب عليها سخط العالم واستنكاره، وأصدرت الأمم المتحدة عدة قرارات لمقاطعة «اتحاد جنوب إفريقيا» في العام 1962 والأعوام التالية له، كما قاطعت دول العالم الثالث الاتحاد بسبب التفرقة العنصرية.

وعندما نبحث عن مثال صارخ وموجع لنضال الإنسان من أجل نيل حريته وإنسانيته لا نجد أفضل من نيلسون مانديلا وعندما نبحث عن نموذج بغيض قبيح لانتهاك حقوق الإنسان بسبب لون بشرته لا نجد شرا من نموذج التفرقة العنصرية «الأبارتهايد».

ظهرت سياسة التمييز العنصري والفصل بين البيض (14 في المئة من تعداد السكان) والسود (ما يزيد على 70 في المئة) بصفة رسمية العام 1910، إذ وافقت الحكومة في ذلك الوقت - والتي كان يسيطر عليها البيض المنحدرون من نسل المستعمرين الأوائل - على مجموعة من القوانين كان من شأنها إسقاط الكثير من الحريات المكفولة للغالبية السود. على سبيل المثال، صدر العام 1911 قانون «الأعمال والمناجم» وفيه تم قصر الأعمال المتدنية (الحقيرة) على العمال السود، الأمر الذي وفر قدرا هائلا من العمالة الرخيصة وضمن للبيض احتكار المراتب العليا على المستويين المهني والاجتماعي.

وفي العام 1913 صدر قانون ملكية الأراضي وحيازتها، إذ خصص للغالبية السود 7.3 فقط من المساحة الكلية لجنوب إفريقيا كي يمتلكوها من دون أن يكون لهم الحق في امتلاك ولو شبر واحد من الأرض خارج هذه النسبة.

إن قول مانديلا في إحدى المناسبات: «إن حياتي هي صراع»، كان أكثر من مجرد كلمات، لقد جسد مانديلا الصراع في شخصه، فقاد الحرب على الانقسام في جنوب إفريقيا بإيمان وصلابة نادرين، بعد أن أمضى ثلاثة عقود خلف قضبان السجن.

أحس مانديلا وهو يتابع دروسه الجامعية بمعاناة شعبه فانتمى إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي المعارض للتمييز العنصري، وفي العام 1944 ساعد في إنشاء «اتحاد الشبيبة» التابع للحزب، وأشرف على إنجاز «خطة التحرك»، وهي بمثابة برنامج عمل لاتحاد الشبيبة تبناها الحزب العام 1949.

في العام 1952 بدأ حزب المؤتمر ما عرف بـ «حملة التحدي»، وكان مانديلا مشرفا مباشرا عليها، فجاب البلاد كلها محرضا الناس على مقاومة قوانين التمييز العنصري، مخاطبا ومنظما المظاهرات والاحتجاجات فصدر ضده حكم بالسجن مع عدم التنفيذ، ولكن الحكومة اتخذت قرارا بمنعه من مغادرة جوهانسبورغ لمدة ستة أشهر، وقد أمضى تلك الفترة في إعداد «الخطة ميم»، وبموجبها تم تحويل فروع الحزب إلى خلايا للمقاومة السرية.

العام 1952 افتتح مانديلا مع رفيقه أوليفر تامبو أول مكتب محاماة للسود في جنوب إفريقيا، وخلال ذلك العام صار رئيس الحزب في منطقة الترانسفال، ونائب الرئيس العام في جنوب إفريقيا كلها.

وزادت ممارسة مهنة المحاماة مانديلا عنادا وتصلبا في مواقفه، إذ سمحت له بالاطلاع مباشرة على المظالم التي كانت ترتكب ضد أبناء الشعب الضعفاء، وفي الوقت نفسه على فساد وانحياز السلطات التنفيذية والقضائية، بشكل كان معه حصول مواطن اسود على حقوقه نوعا من المستحيل.

قدمت نقابة المحامين اعتراضا على السماح لمكتب مانديلا للمحاماة بالعمل، ولكن المحكمة العليا ردت الاعتراض، ولكن حياة مانديلا لم تعرف الهدوء منذ تلك الساعة. فبعد سلسلة من الضغوطات الرسمية والبوليسية اضطر مانديلا إلى الإعلان رسميا عن تخليه عن جميع مناصبه في الحزب، ولكن ذلك لم يمنع الحكومة من إدراج اسمه ضمن لائحة المتهمين بالخيانة العظمى في نهاية الخمسينيات. وقد تولى هو ودوما نوكوي الدفاع ونجحا في إثبات براءة المتهمين.

بعد مجزرة شاربفيل التي راح ضحيتها عدد كبير من السود العام 1960، وحظر جميع نشاطات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، اعتقل مانديلا حتى 1961. وبعد الإفراج عنه قاد المقاومة السرية التي كانت تدعو إلى ضرورة التوافق على ميثاق وطني جديد يعطي السود حقوقهم السياسية.

وفي العام نفسه أنشأ مانديلا وقاد ما عرف بالجناح العسكري للحزب الذي قام بأعمال هجومية ضد مؤسسات حكومية واقتصادية.

في 1962 غادر إلى الجزائر للتدرب العسكري ولترتيب دورات تدريبية لأفراد الجناح العسكري في الحزب.

عند عودته إلى جنوب إفريقيا ألقي القبض عليه بتهمة مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية، والتحريض على الإضرابات وأعمال العنف. وقد تولى الدفاع عن نفسه بنفسه، ولكن المحكمة أدانته بالتهم الموجهة إليه وحكمت عليه بالسجن مدة 5 أعوام. وفيما هو يمضي عقوبته بدأت محاكمة «ريفونيا» التي ورد اسمه فيها، فحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة القيام بأعمال التخريب.

كان مانديلا قبل عشرات الأعوام من سجنه أبدى رأيه في أن التربية يجب ألا تقتصر على «الصفوف» و «قاعات المحاضرات»، وإنما على الناشطين الحزبيين أن يحولوا كل بيت وكوخ وحديقة إلى مدرسة أو مركز لبث الوعي الوطني. وهكذا تحولت جزيرة «روبن» التي سجن فيها مانديلا إلى مركز للتعليم، وصار هو الرمز في سائر صفوف التربية السياسية التي انتشرت في طول البلاد وعرضها.

لم يغير مانديلا مواقفه وهو داخل السجن، بل ثبت عليها كلها، وكان مصدرا لتقوية عزائم سواه من المسجونين وشدِّ هممهم. وفي السبعينيات رفض عرضا بالإفراج عنه إذا قبل بأن يعود إلى قبيلته في رنسكاي وأن يخلد إلى الهدوء والسكينة. كما رفض عرضا آخر بالإفراج عنه في الثمانينيات مقابل إعلانه رفض العنف.

في الثاني من فبراير/ شباط العام 1990 قرر رئيس جنوب إفريقيا الأبيض دي كليرك رفع الحظر المفروض على المؤتمر الوطني الإفريقي وأعلن إطلاق سراح مانديلا، ولكنه بعد الإفراج عنه يوم الأحد (11 فبراير 1990) أعلن وقف الصراع المسلح وبدأ سلسلة مفاوضات أدت إلى إقرار دستور جديد في البرلمان في نهاية 1993، معتمدا مبدأ حكم الأكثرية وسامحا للسود بالتصويت.

وجرت أولى الانتخابات في 27 أبريل/ نيسان 1994 وأدت إلى فوز مانديلا فأقسم اليمين الدستورية في 10 مايو/ أيار متوليا الحكم، إلا أنه أعلن أخيرا عن رغبته في التقاعد.

العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً