العدد 209 - الأربعاء 02 أبريل 2003م الموافق 29 محرم 1424هـ

الإحياء... التجديد... الإصلاح في جدلية الخطاب والواقع

ينقب يحيى محمد في الجدلية البينية الواقعة بين الخطاب والواقع مستعرضا الفرضيات والأطاريح لتلك الجدلية، ناقدا لها ومؤسسا لصورة أخرى يتطلبها الواقع بما يحمل من عوارض، والخطاب بما يملك من أحكام وأسس وتوجيه - بحسب الكاتب - مفتتحا كتابه «جدلية الخطاب والواقع» بثلاثة عناصر تمثل عناوين ملحة في الخطاب الإسلامي وهي: «الإحياء» و«التجديد» و«الإصلاح»، وتأكيدا لإلحاحها فإنها ترفع بين الحين والحين من قبل المثقفين والعلماء والمفكرين الإسلاميين الذين لا ينفكون عنها معالجين أو منتقدين، بيد أن الكثير من المعالجات لم ترتقِ إلى مستوى الواقع، إذ يــبحث أحيانا المفهوم على غرار دراسات انتهت بانتهاء زمنها. ويؤكد الكاتب جدة النظر في مسألة البحث والقراءة بالخطاب «النص»، تلك الجدة لا تدك الثوابت، ولا تسكن متخــشبة في ثكنات الماضي، وما بين ذلك خير مسار للفهم (فهم الخطاب) والرشاقة (رشاقته المتماشية مع المتغيرات).

والواقع في خطابه يمثل وعاء لا نستطيع تجاوزه، فأثره كبير في صوغ الثقافة وبلورتها، وهو المعطي للصورة والمفسر لها في ذهنية من يحتويهم ويضمهم، إذ يجزم المؤلف أنه «لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا واقع، فلكل إنسان واقعه ومحيطه بكل ما يحملانه من مكونات مادية وسنن طبيعية واجتماعية تؤثر على حياة الفرد وتحدد إطاره وسلوكه ونشاطه وثقافته». ويشدد الكاتب على استحضار الواقع فيما إذا أردنا تفعيل المعيار، يقول: «وما نخلص إليه هو التشديد على ضرورة أخذ اعتبار الواقع وإحضاره إحضارا واعيا على مستوى التأسيس، لنظام ومنهج غرضه دفع الفكر الإسلامي نحو آفاق مفتوحة غير قابلة للانغلاق، وذلك بعد رفع اليد عما ساد من نمط التفكير الذي حدده النظام المعياري، سواء في منهجه العقلي أو البياني وطابعه الماهوي». ويتناول (محمد) العقل وما يمثله من منزلة ضرورية لإنتاج الخطاب إذ إن بعض الاطروحات التي صبت في هذا الإطار تحتاج إلى إعادة نظر وتبرير لأوجه الوهن والقصور فيها، فحينما يتحدث (كانت) عن أن العقل ما هو إلا قالب يفهم به الأشياء على غير حقيقتها، فإن السؤال البديهي في هذا الصدد: ما السبيل للخروج من القوالب لفهم الأشياء؟ طبعا لو صحت هذه المقولة لتقوقعنا (الإنسانية جمعاء) في شرنقة ضيقة تضفي على الإدراك هالة ضبابية ربما تخلق معها حالة تشكيكية في كل شيء، لذلك ينتقد الكاتب هذا الطرح إذ يقول: «إذا كان من الصحيح أن ادراكاتنا الحسية لكيفيات الأشياء الخارجية متأثرة تماما بما عليه جهازنا الحسي، وبالتالي جاز أن تظهر بأشكال شتى بحسب طبيعة الأجهزة الحسية، فإن الأمر لا ينطبق على إدراكنا لعلاقات الأشياء كعلاقات العلية (....) مما سبق نعلم أن الدلالة العقلية قد لا تشكل مورد نزاع وصدام مع دلالة الواقع».

ويناقش الباحث أيضا مسألة الفروقات بين فهم النص بنسق وقائعي أو ماهوي، إذ يعرض عدة إشارات ولفتات تؤكد أن للواقع تأثيرا ـ كما العقل ـ على فهم الخطاب «النص»، إذ يمكن القول: «إننا نضطر في كثير من الأحيان إلى الرجوع إلى الواقع لفهم غرض الخطاب وإن لم نجد إشارة من النص تلوح إلى ذلك»، ويستشهد على تأثير الواقع على تأويلات النص المتباينة، مستعرضا مثال آية (القوة) «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل»...(الانفال، 60)، إذ مر تفسيرها عبر الأزمنة المتغيرة في ظروفها وإمكاناتها واتساع أفقها، بتأويلات ثابتة (متفق عليها) وأخرى متغيرة (مختلف عليها)، فالبعض كالسيوطي ذهب إلى أن القوة المعنية بالآية هي كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان، وفي هذا الإطار خصيصا تعددت النظرات لجمع القوة، فهل هي الخيل؟ أو كل سلاح يحمله الزمن؟ وما مدى الجمع لتلك القوة؟ في حين ذهب آخرون إلى أن القوة هي التقوي فقط، وتعددت المقولات في هذا الشأن (منذ نزول الآية إلى حد وقت قريب) فمن ضمن تلك المقولات أن القوة التصافي واتفاق الكلمة، والثقة بالله والرغبة إليه، وما إلى ذلك... ويستعرض المؤلف آيات أخرى مستعرضا تأويلاتها المتغيرة بتغير الزمن على شاكلة الآية السابقة ليبين بجلاء أن الأفهام تتغير بتغير الواقع وملزماته، إذ يقول: «هكذا كان من المحتم أن نفهم مثل الآيات الكريمات وبعض القضايا التي أشرنا إليها بما يتناسب ويتسق مع ظروف الحضارة آنذاك. فحيث إن تلك الظروف لم تتطور بالسرعة والحجم كما هي الحال مع ظروفنا الحديثة، لذلك كان من الطبيعي أن تستلهم العقلية السائدة آنذاك النظام التوفيقي (التعبدي) من الخطاب وتجعله يجري مجرى الواقع ذاته». وهذا مصداقا لقول ابن عباس: دعوا القرآن يفسره الزمان.

ويبين الكتاب أن الإطلاقات التي تصدرها الأنظمة المعيارية لهي مفندة من قبل الواقع (النظام الوقائعي) وليس ثمة إطلاقات تأويلية لا تحتمل النسبوية في حركتها مع الزمن.

وكدلالة واضحة فإن التشريع يلجأ كثيرا إلى إعادة النظر نتيجة لاختلاف الظروف والواقع (إلى درجة يمكن القول إنه لا توجد قاعدة عامة من قواعد السلوك الموضوعة إلا وبجنبها ما يستثنى منها حفاظا على تلك المقاصد والمصالح). ويذكر الكاتب ثلاثة أنماط تخص الممارسات التغييرية للأحكام كما مارسها الفقهاء: الأول: وحدة الدليل الاجتهادي. الثاني: تعارض الدليل الاجتهادي. الثالث: التعارض مع النص.

وسيظل الواقع له الحضور الكبير في تشكيل الخطاب «تأويله» و «النظر فيه»، ومن تأثير ضرورة الحتمية لصوغ الواقع للخطاب خرج «علم الهيرمنطيقيا» مثلا باعتباره باحثا ومنقبا للتأويل بصيغته الجديدة، ومع الإقرار بضرورة حضور الواقع وتأثيره على الخطاب والنص المشرع فهذا لا يعني أن التأويل المتماشي مع الواقع ليست له ضوابط، فهو يمتلك الأدوات الخاصة والآليات المتخصصة التي تحتاج إلى تفرغ لكسبها وحبك لمفاهيمها ولتفعيلها، فمثلا حينما تأتي «نوال السعداوي» وتجلب معها آراء تخص شارع التشريع، نجد أن ليس ثمة أية أداة تمتلكها هذه الباحثة في هذا الصدد ومع ذلك تبث خطابها لـ «المرأة» وكأنها مختصة في علم التأويل والتفسير والإفتاء والحجة في ذلك «التماشي مع الواقع»، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا نظرنا إلى منهجية «محمد أركون» (الإسلاميات التطبيقية) فنحن نتساءل: هل بالإمكان توظيف العلوم الإنسانية الحديثة (الانثربولوجيا) لفهم النص؟ وإن كان بالإمكان ذلك، فما الضابط وما الذي يحمي عذرية المقدسات من أن تفض؟

مسألة الواقع وتأثيره وحضروه داخل في الجو الإسلامي في ثلاث مسارات، الأول: التشبث بالماضي إلى حد رفض التغيير والتماشي مع (الحد الأدنى) مع الواقع في أمور مهمة، وإن كان هذا المسار متحركا مع الواقع فببطء شديد، والمسار الثاني الانفتاح (المخل) بمقدرات معرفية مهمة تقض مضاجع الكثير من المقدسات، وهذا النسق ليس بالمستساغ في عموم الشارع على الأغلب. أما الثالث: فهو المسار المرن المحافظ على هويته الذي لا ينفلت من فلكه بحجة (التماشي مع الواقع) ولا يتخشب في مكانه بحجة التمسك (بالتراث).

يحيى محمد. جدلية الخطاب والواقع. بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى: 2002

العدد 209 - الأربعاء 02 أبريل 2003م الموافق 29 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً