العدد 2141 - الأربعاء 16 يوليو 2008م الموافق 12 رجب 1429هـ

قراءة في «القبض والبسط» في الشريعة لعبدالكريم سروش

ميزة عبدالكريم سروش أنه مفكر تكونت ثقافته ومنهجيته في البحث من ابعاد علمية متعددة فهو صاحب اختصاص في الصيدلة والكيمياء، ومتابع لأحدث الدراسات الغربية في علم التاريخ وفلسفة العلوم وعلم المعرفة (الابستمولوجيا)، وهو الى ذلك ناشط ثقافي سياسي، ومتبحر في علم الكلام والتفسير واصول الفقه ومتذوق لأدبيات العرفان التي هي سمة من سمات الشفافية والتسامي لدى المثقف الايراني المتميز. على أن هذه العناصر التكوينية لثقافة سروش، والتي تبدو جلية في كتاباته عبر الاستشهاد والتوثيق والاشارة، لا تصطف اصطفافا كميَّا، بل تتداخل وتتفاعل في نوع من الوحدة المعرفية التي تتحول بفعل تداخلها العميق الى منهج معرفي متكامل.

منطلق هذا المنهج، ما تراكم من افكار نقدية في علم المعرفة (الابستمولوجيا) ومن ادراك للقفزات المعرفية (العلمية) في العلوم، ولاسيما في علوم الانسان والمجتمع، وفي طليعتها التاريخ والانثروبولوجيا. ومرجعية سروش الاساسية في تعريفه لنظريته في القبض والبسط تعود الى هذا التراكم المعرفي الذي بدأ مع باشلار في تكوين العقل العلمي، الى كون الى بويز الى فيتكنشتاين.

يعرِّف سروش نظريته في مواقع عدة في الكتاب. ومن اوجه هذا التعريف أن فهمنا لكل شيء متحرك ومتحول (ص 185) وأن كل نظرية ابستمولوجية واقعxية تقول بالتمييز بين الشيء والعلم به. ووفقا لهذا التمييز يميِّز سروش بين الشريعة بذاتها وفهمها البشري، وبالتالي بين الدين بذاته والمعرفة به، اي المعرفة الدينية. يقول «الشريعة باعتقاد المؤمنين قدسية كاملة وإلهية المصدر والمنشأ (...) أما فهم الشريعة فلا يتصف بأي من هذه الصفات، ولم يكن في اي عصر من العصور كاملا ولا ثابتا ولا نقيا ولا بعيدا من الخطأ والخلل، ولا مستغنيا عن المعارف البشرية أو مستقلا عنها، ومنشأه ليس قدسيا، ولا إلهيا، وهو ليس بمنأى عن تحريف المحرفين أو الفهم الخاطئ لذوي العقول القاصرة، وليس خالدا ولا ابديا (...)» (ص 31). يتركز هذا التعريف في معناه في مواقع عدة من الكتاب. (لأن الكتاب على ما يبدو هو مجموعة محاضرات تتكرر فيها الافكار وتنضاف اليها تباعا أفكار جديدة).

أن تكون المعرفة الدينية معرفة بشرية، يعني أنها كغيرها من معارف علوم الانسان والمجتمع. وفي الفصل الثاني (ص 36) يشبِّه سروش المعرفة الدينية بالمعرفة التاريخية، ويقول: «إن علم التاريخ يتطور وتعاد صياغته دائما، ليس لأن الاكتشافات التاريخية تزيد كميا، ولكن لأن فهم المؤرخ للحوادث يتطور كيفيا ولأن الاكتشافات العلمية الجديدة تفتح منافذ جديدة للتحقيقات والابحاث التاريخية، والمؤرخ المجهز بالوسائل العينية والنظريات الجديدة يتوصل الى الفتوحات التاريخية الجديدة». ثم يعود الى نقطة «اغتناء العلوم من بعضها البعض» (ص 325).

ويضيف «هذه هي حال المتصدي للمعرفة الدينية سواء كان فقيها أو مفسرا أو عالم كلام أو باحثا من اي اختصاص، عليه أن يستعين بالتاريخ وبمنهجه وبالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الاناسة، كل هذا حاضر في فهم الدين» (ص 43).

ماذا يحصل اذا اصطدمت المعرفة الدينية بالمعرفة البشرية العلمية؟ وحدث التناقض؟ يشير سروش هنا إلى موقف غاليليه في حل التناقض بفهم جديد للدين ولدوره. كانت نظرية السماوات السبع بالنسبة الى القدماء منسجمة وعلوم زمانهم، فلما ثبت بطلان هذه النظرية علميا خلق هذا لغاليليه ألما جراء التناقض «فهو كان يحترم العلم وفي الوقت نفسه كان متدينا»، فرأى أن الدين يعلم الناس كيف يصعدون الى السماء اي الى الجنَّة، ولا يعلمهم كيف تتكون السماء وكيف تتحرك» (ص48). اذا، العلوم العصرية هي التي تطرح الاسئلة على الدين وعلى الشريعة وتستثير الاجوبة عليها، وأسئلة كل عصر هي وليدة علوم ذلك العصر، ولا يمكن أن تطرأ على بال احد قبل نضج العصر علميا، وبما أن العلوم تتجدد، فإن الاسئلة وثانيا الاجوبة تتجدد. ومن هذا المنطلق تبقى المعرفة الدينية في تجدد مستمر... (ص 68).

التحدي الذي يواجه سروش هو في مدى مقدرته على تطبيق هذا المنهج المعرفي على النصوص الدينية وبخاصة القرآن والسنة. ذلك أن كثرة من الاصلاحيين المسلمين، ومنذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى اليوم، حاولوا تقديم قراءة تأويلية للنصوص منسجمة الى حد ما مع حاجات العصر، ولكن المحاولات ذهبت في جلها مذهب التبرير الايديولوجي الظرفي المتزامن مع واقعة أو حدث أو دعوة سياسية أو اجتماعية أو حاجة اقتصادية، وكانت المحاولات في معظمها تتناول حقل الفقه واحكامه في نطاق من الاجتهاد الكلاسيكي، كتوسيع نسبي لحقوق المرأة، أو الاجتهاد بمسائل الفائدة أو تفسير بعض الآيات تفسيرا تأويليا أما سروش فإنه يحاول إحداث تغيير في المنهج من داخل اصول الدين اي من خلال علم الكلام. وعدته في هذا الاقتحام الفلسفة والابستمولوجيا والعلوم الطبيعية، لأن هناك تلاؤما لدى الانسان المعاصر بين معرفته بالانسان ومعرفته بالطبيعة والالسنية والانثروبولوجيا. وهذا التلاؤم يجب أن يشمل فهم الانسان للدين.

واكثر الناس استهدافا من هذا الاقتحام هم رجال الدين الذين يُحمّلهم مسئولية بعد المثقفين التنويريين عن الدين في تاريخنا المعاصر. يقول: «كي لا نكون بعيدين عن الانصاف نقول إن ما أظهره بعض المفكرين التنويريين في تاريخنا المعاصر من بُعد عن الدين لم يكن سببه الحقد على الدين، وإنما كان سببه أن الدين الذي عرض عليهم لم يكن مليح الصورة» (ص 108). لذلك يستنتج أن «المعرفة الجديدة للانسان والمجتمع والطبيعة فريضة على المتكلمين ورجال الدين اليوم» (ص 112).

ويستعد سروش «لمشاجرة» مع كثيرين من هؤلاء غير أنه يرى أن «المعرفة الدينية مباراة عقلية محتدمة لا تتضرر من هذه المشاجرات بل تغتني بها» (ص 123).

لا ندري إن كانت افكار سروش ستقتصر على اثارة مشاجرة فكرية فحسب. ذلك أن الاسئلة التي يطرحها من خلال تطبيق منهج الانثروبولوجيا اللغوية الثقافية على النص القرآني كفيلة وحدها بإثارة مخاوف وهواجس جيش كبير من رجال الدين. وهذه سمة كبرى من سمات شخصيته العلمية الجريئة والنقدية الى ابعد الحدود.

اللافت في هذا النقد الجريء دفعه بتفسير الآية القرآنية: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه» (إبراهيم: 4) الى حقل المنهج الانثرولوجي الثقافي حيث يطالب سروش آية الله الطالقاني بعدم الاكتفاء بالتأويل الانتقائي للآيات، بل بما يقتضيه التفسير الانثروبولوجي الثقافي لمعنى أن تكون الرسالة بلغة القوم وثقافتهم (ص 135 - 136) فماذا يترتب على هذا معرفيا؟ في بحث مستقل سقط من الترجمة العربية يوسع سروش هذه الفكرة الجريئة ويشرحها تحت عنوان «الذاتي والعرضي في الاديان» (ترجم الى العربية في مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد 22 شتاء 2002 ص 174 - 208 وهو فصل من النسخة الفارسية). لتقديم وجهة نظره في معنى الذاتي (الجوهري) والعرضي وتقريبها الى الفهم يتوقف سروش عند ثلاثة امثلة بلغات ثلاث تفيد المعنى الواحد أي الروح أو الذات او الجوهر لنقرأ معه هذه الكلمات الثلاث المستخدمة في لغات ثلاث:

- كحامل التوابل الى كرمان (مثل فارسي).

- كآخذ الفحم الحجري الى نيو كاسيل (مثل انجليزي).

- كناقل التمر الى البصرة (مثل عربي عراقي).

«المدلول الجوهري أو قل الروح المجردة (الذات) لهذه الامثال الثلاثة واحدة، بيد أنها روح ارتدت ثلاثة ازياء مختلفة تتضمن ألوان القوم الذين خاطوها وثقافتهم وجغرافيتهم ولغتهم». ويعلق على المقارنة بين الامثلة الثلاثة من زاوية الاخذ في الاعتبار اختلاف الجغرافيا الطبيعية والعادات والثقافة واللغة، بملاحظات منهجية ثلاث:

- قوام هذه الامثال وهوياتها بمحتواها الداخلي الثابت.

- المظاهر العرضية تظهر بوجوه واشكال جد متنوعة.

- مناط العرضي هو امكان ظهوره بشكل آخر.

ويحاول سروش أن يطبق هذا المنهج على النص القرآني معتبرا اللغة العربية والثقافة العربية السائدة حين نزول الوحي هي المظاهر العرضية أو الاشكال الظاهرة التي يؤدى عبرها المعنى الجوهري. هذه اللغة والثقافة العربيتان تتجليان في استخدام مألوفات العرب وعاداتهم. فعلى سبيل المثال، يذكر القرآن نساء الجنة بأنهن حور، اي سوداوات العيون ولسن زرقاوات العيون، وانهن يسكن في الخيام «حور مقصورات في الخيام». ويوصي الناس بالنظر الى الابل وخلقتها «أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت» (الغاشية: 17). يستخدم القرآن التقويم القمري، ويتحدث عن قبيلة قريش ورحلاتها الصيفية والشتوية، ويحكي عن أبي لهب، ويذكر الدواب التي يعرفها العرب كالخيل والابل والحمير...

كلها دلائل على أن اللون العربي والرائحة العربية والخلق والعنف والتقاليد والعادات والبيئة والمعيشة العربية احاطت النواة المركزية للفكر الاسلامي. ثم يخلص الى القول وبعد أن يسهب في ذكر المفردات المعروفة والمتداولة في البيئة الثقافية العربية في الجزيرة: «نحن هنا حيال مجموعة من العرضيات وعلى رغم طابعها العرضي والخارجي، فإنها ساهمت مساهمة كبيرة في تشكل المحتوى الداخلي».

ما معنى هذا الكلام؟ يجيب: «معنى هذا الكلام أن لبوس الثقافة القومية من لغة واذواق واساليب حياة ونقاط ضعف وقوة عقلية وخيالية وعادات وتقاليد ومألوفات ومسلمات فكرية وخزين لغوي ومفاهيمي يضيف على جسد العقيدة والفكر ويخلع عليه نواقصه وكمالاته لا محالة». ويستشهد بجلال الدين الرومي عندما يتشكى من اللغة في ضيقها أن تتسع للتعبير عن الوجود «ليت للوجود لسانا يتكلم به».

يطرح سروش سؤالا افتراضيا قد يساعد على فهم ابعاد، إو اشكالية، اللغة أو الثقافة التي شكلت لبوس الاسلام: هل تبقى عرضيات الاسلام هي نفسها لو نزل القرآن بلغة اخرى؟

يجيب ايضا: لا جدال في أن الاسلام لو نزل في اليونان أو الهند أو بلاد الروم بدل الحجاز لكانت عرضيات الاسلام اليوناني والهندي المتغلغلة الى اعماق طبقات النواة المركزية تختلف اختلافا كبيرا عن الاسلام العربي ولوفرت الفلسفة اليونانية المتينة على سبيل المثال ادوات لغوية ومناهجية، ومنظومة مفرداتية خاصة لنبي الاسلام تغير معالم خطابه، كما أن الاسلام الايراني والهندي والعربي والاندونيسي اليوم، وبعد قرون من التحولات والتفاعلات، تمثل انماطا من الاسلام تختلف عن بعضها بشهادة ادبياتها ونتاجاتها (الى جانب المشتركات فيما بينها). ولا تقف التباينات عند تخوم اللغة والظواهر بل تمتد الى اعماق الوعي والثقافة الدينية» (ص 191).

يصل سروش في مسار هذا التفكير الابستمولوجي الى مأزق منهجي خطير ومهم، ويترتب من اجل تجاوزه التفكير باستراتيجيات علمية كبرى لا تقف عند حدود الاجتهاد الفقهي والتأويل الايديولوجي لبعض الآيات كما فعل جُل الاصلاحيين الاسلاميين فرسا وعربا وهنودا، بل التفكير بلاهوت اسلامي عالمي جديد، متجاوز للثقافات واللغات القومية التي صبغت الاسلام طوال قرون بعرضيات، ليست من ذاتيات الاسلام كما يقول سروش، لاهوت يبقي على الجوهري والذاتي في الاسلام ولا يلغي العرضي بما هو معطيات تاريخية ولكن يفسره بمناهج علوم الانسان والمجتمع ويتجاوزه الى ما هو عالمي وانساني ومستقبلي.

* مؤرخ وأستاذ جامعي

العدد 2141 - الأربعاء 16 يوليو 2008م الموافق 12 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً