العدد 2151 - السبت 26 يوليو 2008م الموافق 22 رجب 1429هـ

دبلوماسية حياكة السجاد وتفرق دول الروم!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

ما جرى من توافق غير رسمي وغير مكتوب في أروقة جنيف على الملف النووي الايراني كان أكثر من واضح وأكثر من صريح بأن الحرب والخيار العسكري بات وراءنا، إذ إن الأوروبيين استطاعوا أن يتوصلوا مع الإيرانيين قبلها إلى أشبه ما يسمى بخريطة طريق تنقذ ماء وجه الجميع، ولكن من دون الرضوخ للشرط الأميركي المتمثل بإعلان إيراني وقف التخصيب أولا قبل الدخول في أية مباحثات جدية، والذي كان في الواقع العقبة امام أية تسوية تنزع فتيل الانفجار مع طهران.

فقد استطاع خافير سولانا ممثلا لمجموعة الدول الأوروبية أن يساوم الايرانيين على الاقتصاد مقابل السياسة، وأن يباغت الاميركيين بخريطة الطريق التي اتفق عليها مع الإيرانيين والتي تقضي بوقف التنمية المضطردة لمشروع التخصيب الايراني.

وهكذا دخل وليام بيرنز الى الاجتماع وامامه عمل منجز لا يملك سوى التجاوب معه حتى لا يصبح واحدا أمام خمسة مفضلا بالتالي أن يتحول على الفور الى عضو نشط في مجموعة الـ6 + 1، ما دفعه عمليا إلى اتخاذ موقف ايجابي من ورقة سولانا غير المعلنة وموقف «ثقافي» حار تجاه الشعب الايراني، تعويضا عن الخيبة التي لحقت بواشنطن طوال فترة التحريض السابقة ضد طهران، الامر الذي دفع بالرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بالمقابل إلى اتخاذ الموقف المشجع والايجابي تجاه المشاركة الاميركية الاولى من نوعها في اطار البحث عن حلول سلمية وحوارية لملف ايران النووي.

إنها البدايات الطبيعية، لكنها الطويلة والمتعرجة لمسيرة التطبيع بين طهران وواشنطن، والتي حاول كبير المفاوضين في الملف النووي الإيراني سعيد جليلي أن يمررها في نهاية اجتماعات جنيف، من خلال تعليقه المهذب والمبطن عن «فن حياكة السجاد الشاق، لكنه الذي ينتج لوحة بديعة».

لكن الاميركيين الذين يعيشون صراعا داخليا خفيا وكبيرا ومعقدا ومتشابكا فيما بين الديمقراطيين والجمهوريين، أما أنهم لم يلتقطوا الاشارة جيدا أو أن الصراع الداخلي قد اعماهم عن رؤية التحول الحقيقي الذي انجزه الأوروبيون بالتعاون مع الايرانيين.

فوليام بيرنز تم توبيخه على ما يبدو وكما تشير التقارير المتواترة، لأنه «خرج من المولد بلا حمص» كما يقول المثل حتى اضطرت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الى التلويح بمهلة الاسبوعين للايرانيين في محاولة للتعويض عن احباطات بيرنز، في الوقت الذي تعرف فيه جيدا أن ما اتفق عليه سولانا وجليلي هو بالضبط ما تشير اليه هي من خلال مهلة الاسبوعين اي الشروع بتطبيق خطة خريطة الطريق بعد اسبوعين بالضبط من اجتماعات جنيف، ما يعني أن رايس اما أنها تريد وأد الخطة لأنها تبلورت ونضجت بعيدا عن التأثير الاميركي المباشر، أو أنها تريد التذاكي على الرأي العام الدولي والرأي العام الداخلي في أميركا لتسويق مترشحها للرئاسة الاميركي جون ماكين الذي يعدها بموقع نائب الرئيس، وذلك في اطار السباق الجاري بين الحزبين باتجاه فتح مغاليق الحوار مع طهران.

وهنا يبدو أحمدي نجاد وكأنه الرابح الاكبر في هذه الاثناء، إذ إنه من جهة استطاع أن يبدو الاقوى عندما يصمد داخليا على رغم رسائل «الغزل» القوية من جانبه تجاه واشنطن وأن يظهر خارجيا بمثابة الرجل الاكثر اعتدالا وجرأة من غيره ممن سبقوه وهو المتهم بالراديكالية والتشدد واعادة تصدير الثورة و... إلخ والذي طالما قيل إنه يخسر ايران في المجتمع الدولي.

أحمدي نجاد إذا استطاع كذلك أن يرمي الكرة في الملعب الاميركي الداخلي ويجعل التنافس على الورقة الايرانية بين الحزبين المتنافسين اكثر حدة واكثر جدلا.

الملاحظ في هذه الاثناء هو بروز محور فرنسي - ألماني موازٍ للمحور الروسي - الصيني ينادي بشدة بضرورة مقاومة اي خيار عسكري قد تفكر به واشنطن، حيث ثمة اخبار وتقارير متواترة يتم تداولها هنا بأن السفيرين الالماني والفرنسي في طهران يتسابقان الى وزارة الخارجية الايرانية لابلاغها بالموقف المعارض لأية ضربة عسكرية سواء من جانب أميركا أو «إسرائيل»، وهو ما لجأ اليه أخيرا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي نفسه عندما حمل مثل هذه الرسالة الواضحة للرئيس السوري بشار الاسد اثناء لقائه به في باريس على هامش اعياد يوليو/ تموز الفرنسية، وهو ما دفع القيادة الايرانية لارسال وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي إلى العاصمة السورية للاستماع اليها بعناية!

الامر نفسه ابلغته سويسرا عبر رئيسة وزرائها كما يتردد هنا في طهران. وزير الخارجية الروسي دخل على خط جنيف بقوة منددا بمقولة «المهل غير اللازمة وغير المثمرة والتي لا داعي لها» كما قال، والتي جعلت الموقف الأميركي اكثر حراجة من اي وقت مضى، في وقت تقوي فيه المفاوض الايراني وتجعله يمتلك اليد العليا في المفاوضات.

ولكن ما هي خطة خريطة الطريق التي تم الاتفاق عليها بين سولانا وجليلي والتي دفعت بالأميركيين ليقعوا في مثل هذا الاضطراب؟!

أولا: تجاوز مقولة وقف التخصيب والتي اصبحت من الماضي كما يردد الايراني اليوم. ثانيا: الاعتراف والاذعان بدور اقليمي اساسي لإيران في كل التسويات التي تتعلق بقضايا المنطقة. ثالثا: السعي إلى أخذ ضمانات من مجموع قوى المجتمع الدولي بالاعتراف النهائي بالنظام الايراني وعدم العمل على زعزعة استقراره أو اسقاطه أو التحريض ضده.

كل ذلك مقابل وقف إيران برنامج تنمية المشروع النووي وليس وقف التخصيب، أي عدم التقدم مؤقتا باتجاه التخصيب الصناعي، وعدم الانحراف مطلقا باتجاه التسلح العسكري.

وهنا ثمة من يقول مجددا إن المفاوض الايراني استطاع عمليا أن يحصل على ما يريد من خلال سياسة حافة الهاوية التي كانت تظهر القدرة والقوة الايرانية باستمرار وسط عالم لا يعرف إلا لغة القوة، بينما خسر الغرب مجتمعا الرهان على وسائل واساليب التهويل والتهديد سواء بتشديد العقوبات أو التلويح بالقوة العسكرية.

وأخيرا وليس آخرا ثمة من لخص الامر بأن طهران استطاعت عمليا أن تجعل الزمن يجري وراءها وأن تجعل دول الروم الحديثة تتفرق على ابواب بلاد فارس من خلال دبلوماسية حياكة السجاد الطويلة النفس، لكنها المضمونة النتائج «لوحة فارسية بامتياز».

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 2151 - السبت 26 يوليو 2008م الموافق 22 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً