العدد 2251 - الإثنين 03 نوفمبر 2008م الموافق 04 ذي القعدة 1429هـ

هل لدى المسلمين مشكلة مع التعددية الثقافية؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

قبل تفجيرات لندن بعامين، وتحديدا في يوليو/ تموز 2003، كتب بيخو باريخ مقالة في مجلة Prospect الشهرية، يجادل فيها بأن المشكلة الرئيسية لمسلمي بريطانيا لا تكمن في عدائهم للديموقراطية؛ لأنه ليس لدى المسلمين مشكلة مع القانون والنظام العام، غير أن لدى بعضهم مشكلة مع التعددية الثقافية. ويرجع السبب في ذلك إلى أن المسلمين مقتنعون بتفوق دينهم المطلق، وأن كثيرا منهم يتزوجون من نساء غير مسلمات، إلا أنهم لا يسمحون بزواج المسلمات من غير المسلمين إلا إذا اعتنق هؤلاء الإسلام. وبناء على هذا يستنتج باريخ أن علاقة المسلمين بالتعددية الثقافية علاقة مزدوجة، فهم «يرحّبون بها لأنها تمنحهم حرية الاحتفاظ بهويتهم الدينية» في مجتمع ديموقراطي يحترم حرية الاعتقاد، إلا أنهم «يمتعضون منها لأنها تنكر عليهم تفوّقهم، وتعرّضهم هم وأبناؤهم للتفاعل مع الأديان الأخرى والثقافات العلمانية» التي تقترن لديهم بالإلحاد.

بناء على هذا التحليل لا يستبعد أن يستنتج أحد المراقبين أن هدف تفجيرات لندن هو تدمير هذا النموذج للمجتمع متعدد الثقافات. فإذا كان المسلمون يؤمنون بأن الإسلام دين متفوق بصورة مطلقة، فإنهم لن يتقبلوا أن يعامل دينهم على قدم المساواة مع الأديان والثقافات الأخرى. وبالمعنى هذا تكون التعددية الثقافية هي الضحية المراد تصفيتها في تفجيرات لندن، لا المذنبة المتهمة بهذه التفجيرات!

وسواء كانت التعددية الثقافية ضحية أم مذنبة، فإن الثابت، حقا، هو أن الجدل حول التعددية الثقافية ابتدأ قبل تفجيرات لندن، إلا أنه انفجر بحدة عاطفية غير مسبوقة بعد وقوع هذه التفجيرات. لقد قامت هذه التفجيرات، لدى خصوم التعددية الثقافية، مقام الدليل القاطع على ما ينطوي عليه هذا النموذج من خطورة بالغة تهدد وحدة المجتمع واستقراره. وعلى الرغم من تلك الملاحظة التي أشار إليها باريخ فيما يتعلق بموقف المسلمين المزدوج تجاه التعددية الثقافية، فإن معظم الانتقادات والاتهامات التي وجّهت إلى التعددية الثقافية بعد تفجيرات لندن، لا تتورّع عن الربط بين خطورة التعددية الثقافية وتورّطها من جهة، وبين العنف المتجذر في «طبيعة الإسلام والمسلمين» من جهة أخرى. وصار التحذير من التعددية الثقافية يتطابق مع التحذير من عنف المسلمين وهيجانهم الذي أسفر عن وجهه في الاحتجاجات الغاضبة ضد رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية» في بريطانيا، وضد الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص) في الدنمارك.

إن الحديث عن علاقة الحرب في أفغانستان والعراق والصراع في الشرق الأوسط بتلك الهجمات الإرهابية في مدريد ولندن، يفترض أن هذا العنف ذو طابع عَرَضي وطارئ. بمعنى أنه لا يعكس «طبيعة» مترسخة في سلوك المسلمين، بقدر ما تعكس أوضاعا مختلة في الشرق الأوسط سمحت لإسلاميين متطرفين بالتوسّل بها من أجل شن هذه الهجمات في أوروبا وأميركا كما في بلاد المسلمين أنفسهم دون تمييز بين هذا البلد أو ذاك.

حين وقعت هجمات نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، كانت الإدارة الأميركية لم تبدأ بعدُ مغامراتها في شنّ حروبها الانتقامية والاحترازية في أفغانستان والعراق؛ ولهذا السبب يصبح من الصعب تفسير هذه الهجمات الإرهابية على أنها عقاب أو ردّ انتقامي على هذه الحروب. بالطبع هناك من فسّر هذه التفجيرات على أنها ردّ انتقامي على سياسات هذه الإدارة في الشرق الأوسط منذ حرب الخليج الثانية في 1991 التي خلّفت أكثر من 200.000 قتيل وجريح عراقي، إضافة إلى عدد أكبر من ضحايا الحصار الأنجلوأميركي الذي فرض على العراق بعد الحرب. وقد سبق لجون بلجر في مقالته عن «تفجيرات بلير» أن كتب بأن «من يتفهم التاريخ المؤلم في الشرق الأوسط لن يصاب بالدهشة لما حدث في 11 سبتمبر»، إلا أن هذا لا ينفي أن هذا الحدث كان صادما وأصاب الجميع بالذهول.

غير أن الوضع مختلف في تفجيرات مدريد ولندن، والسبب ليس وجود سابقة لهذه التفجيرات في نيويورك، بل لأن ثمة حربين دمّرتا أفغانستان والعراق، ولهذا لم يكن عسيرا على أحد أن يفترض أن هذين التفجيرين جاءا كرد انتقامي على هاتين الحربين. كما يمكن لأي محلل سياسي أن يعقد مقارنة بين هاتين الحربين وبين هذين التفجيرين، ويمكنه أن يستنتج أن عدد ضحايا الحربين كان مهولا إذا ما قيس بعدد ضحايا التفجيرات الثلاثة مجتمعة، حيث قتل 3000 شخص في تفجير البرجين التوأمين في نيويورك، و191 في تفجيرات مدريد، و52 في تفجيرات لندن، فيما قتل أكثر من 20.000 أفغاني في الحرب على أفغانستان، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 655.000 عراقي قتلوا منذ بدء الحرب في العراق. هذه أرقام مرعبة، إلا أن هذه المقارنة الكمية باطلة أساسا، وذلك من منظور إنساني وأخلاقي؛ لسبب بسيط وهي أنها تختزل الوجود الإنساني إلى سلسلة من الأرقام والكميات، في حين أن القتل جريمة بشعة سواء كان في أفغانستان أو في العراق أو في مدريد أو في لندن أو في أي مكان من العالم. كما أن الحديث عن الخسائر البشرية بلغة الأرقام والكميات يقود إلى استنتاجات باطلة أخلاقيا: فإذا كان قتل إنسان واحد أهون من قتل عشرة، فإن قتل هذا الواحد سيكون هيّنا!

تختزل هذه التحليلات البشر إلى مجرد أرقام وكميات، في حين أن مفهوم الكرامة البشرية يقاوم هذا النوع من الاختزال؛ لأن كل شخص ينبغي أن يعامل وأن ينظر إليه، كما تطالب أخلاقيات كانط، بوصفه «غاية في ذاته، لا مجرد وسيلة». إلا أن لاختزال البشر طرائق عديدة، فأحيانا يختزل البشر إلى لغة الأرقام، وأحيانا أخرى يجري اختزالهم إلى مجموعة من «الطبائع الثابتة والجوهرية» التي لا تتغيّر كما لو كان البشر حجارة أو صخورا. هذا النوع من الاختزال هو الذي تنطوي عليه تلك التحليلات التي عمدت إلى تفسير تفجيرات لندن ومدريد على أنها تعبير عن «طبيعة» عنيفة ثابتة لدى المسلمين. وبالمعنى هذا فقط تكون علاقة هذا العنف المجنون بما يجري في أفغانستان أو العراق علاقة واهية. وقد تنبّه سامي زبيدة، في مقالته عن «تفجيرات لندن: العراق أم غضب المسلمين؟»، إلى أن بعض التحليلات السياسية كانت مستمدة من تحليلات استشراقية كتلك التي أطلقها برنارد لويس في مقالة كتبها في العام 1990 تحت عنوان «جذور الغضب لدى المسلمين». كما انتقد أميتاي إتزيوني، المنظر الأشهر للتوجه الجماعاتي Communitarianism، محاولات اختزال كل المسلمين في كونهم إرهابيين ويساندون العنف ويناصبون الغرب العداء الأزلي، واعتبر أن «شَيطَنة كل المسلمين، كما يفعل برنارد لويس وصمويل هنتنغتون وأتباعهما، هو توجه خاطئ. فغالبية المسلمين، كما شاهدتُ في أكثر من مكان، يعارضون الإرهاب والعنف والإكراه. وإن تصنيفهم جميعا بأنهم متعصبون وميالون للعنف يسهم كثيرا في توسيع دائرة أعدائنا، وفي دفعهم إلى الجانب الآخر»، أي إن هذا الاختزال يسهم في تحويل الحلفاء والمعتدلين من المسلمين إلى أعداء وخصوم على طريقة النبوءة التي تحقق ذاتها في نهاية المطاف.

وعلى خلاف ما يذهب إليه إتزيوني، فإن المقاربات الاختزالية تذهب إلى التركيز على «هيجان» المسلمين وغضبهم الجماعي، في محاولة لإثبات أن العنف والغضب إنما هو تعبير عن «طبائع» ثابتة لدى المسلمين ولا داعي للبحث عن عوارض أو مسببات طارئة لمثل هذه «الطبائع». ولهذا لم يكن غريبا على باحث مثل جيل كيبل أن يفسّر تفجيرات مدريد 2004 بمنطق استشراقي يقلّل من قيمة تلك الحقيقة التي تقول إن إسبانيا «تشكّل جزءا لا يتجزأ من الغرب الذي تشارك فرقه العسكرية في احتلال العراق»، وذلك من أجل السماح لمخيلته الاستشراقية بأن تحلّق بعيدا من أجل أن يرجع سبب التفجيرات إلى «مخيلة المجاهدين أجمعين» الذين ينظرون إلى إسبانيا على أنها «الأندلس القديمة التي ينبغي لهم أن يستردّوها، وهي أرض مسلمة غصبها الكافرون، على نحو ما حدث لـ «إسرائيل»، ولمقاطعة كشمير، أو لبلاد البوسنة، وصار من المباح أن يقتل المسلمون المحتلين الكافرين»! (الفتنة: حروب في ديار المسلمين، ص18)، كما أنه لا يتورّع عن اختزال كل مسلمي أوروبا وأميركا في كتلة صماء واحدة، وذلك حين يصف كل «هؤلاء السكان» بأنهم «لا يزالون يعانون في نفوسهم شرّ التناقضات المحتدمة التي تجعل من أوروبا في ما يتجاوز حدة الصراعات الجارية اليوم على أرض فلسطين أو أرض العراق، الحقل الأكثر أهمية على صعيد الرموز». فكل هؤلاء يعانون من هذه التناقضات ولا فرق، بعد ذلك، بين مسلم بريطاني تقدّر ثروته بالملايين، ومسلم آخر يقتات على ما يبيعه من سِقط السلع المفرّقة في أحد شوارع مدريد، ولا فرق بين مسلم عضو في مجلس اللوردات البريطاني، ومسلم فرنسي آخر عاطل عن العمل في إحدى ضواحي باريس، فكل هؤلاء سواء في معاناتهم النفسية، وفي الأهمية الرمزية التي تمثلها أوروبا لهم بعيدا عما يجري على أرض الواقع في فلسطين والعراق! والحال أنه لا يمكن أن نتحدث بصورة تعميمية عن كل مسلمي أميركا وأوروبا - ومن أمامهم كل مسلمي العالم - دون أن نختزل هؤلاء أجمعين في هوية واحدة ككتلة صماء تذوب فيما بين عناصرها اختلافات العرق واللغة والموطن الأصلي والمذهب والجنس والطبقة والعمر والمهنة والمكانة. ولا يضطلع بهذا النوع من الاختزال، وبصورة متعالمة ومتحذلقة، إلا خطاب الاستشراق سواء قديمه الذي حلّله إدوارد سعيد في كتاب «الاستشراق»، أو جديده الذي يعيد إنتاجه أولئك الخبراء والمتخصصون الجدد في شئون الإسلام والشرق الأوسط. ولهذا السبب يمقت المستشرقون، قديمهم وجديدهم، التعددية الثقافية التي تقوم على احترام التنوع بدل اختزاله وتنميطه.

وبناء على كل هذا، فإن السؤال عن علاقة المسلمين بالتعددية الثقافية سؤال مغلوط منذ البداية؛ لأنه ينطوي على تنميط للمسلمين واختزال لتنوعهم، ولأنه يفترض أن المسلمين كتلة صماء واحدة وتتمتع بموقف موحد تجاه قضية محددة مثل التعددية الثقافية. وهذا اختزال يشترك في إنتاجه هؤلاء الخبراء الجدد والمتطرفون الإسلاميون سواء بسواء، فكل هؤلاء يختزلون المسلمين في «طبائعهم الجوهرية الثابتة»، ويختزلون تنوعهم إلى كتلة صماء موحدة.

(يتبع

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2251 - الإثنين 03 نوفمبر 2008م الموافق 04 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً