العدد 235 - الإثنين 28 أبريل 2003م الموافق 25 صفر 1424هـ

هرب من موت محتم إلى موت محتمل

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

في العام 1988، شب حريق كبير في محطة لاستخراج النفط في بحر الشمال (بريطانيا)، وكان ذلك الحريق المروع قد أذهل اصحاب المهنة الذين لم يتوقعوا حدوثه، وكان احد الذين نجوا بحياتهم من ذلك الحريق المدمر قد تحدث عما حصل له، وكان في حديثه العبر. يقول الرجل انه كان نائما في غرفته عندما شعر بالحرارة تقترب منه، خرج من غرفته ليرى اللهب يقضي على المحطة البحرية ومن فيها. راجع نفسه وراجع ما تدرب عليه في قاموس المهنة. قاموس المهنة يقول له: لا ترم نفسك في الماء البارد (بحر الشمال) لانك لن تستطيع البقاء في الماء المثلج اكثر من 15 دقيقة ثم تموت. نظر الى البحر واذا به ظلام دامس، ونظر الى الاسفل من مرتفع يعادل خمسة عشر طابقا فرأى اجزاء محترقة تهوي الى الارض ورأى زيتا مشتعلا على سطح البحر. ماذا يعمل في هذه اللحظات الحرجة؟ قرر اخونا ان يرمي بنفسه ويخالف كل ما قرأه في قاموس المهنة ويتحدى ألهبة النيران. وهكذا ما هي الا دقائق واذا بجسده يرتطم بالماء البارد المغطى بالنيران المشتعلة من مرتفع شاهق فى علو يعادل خمسة عشر طابقا. وهي ايضا دقائق معدودة من الصراع مع الموت واذا بأحد قوارب النجدة ينقذه من الموت. ماذا قال بعد هذه المجازفة؟

قال معلقا: «لقد هربت من موت محتم الى موت محتمل». هذه الجملة فيها الكثير من الدروس التي توضح معنى الشجاعة من جانب ومعنى القدرة على اتخاذ القرار مع حساب الخسائر المحتملة. هناك الكثير ممن يستطيعون القيام بما هو أصعب من ذلك اثناء تصوير فيلم او اداء سرك، الا ان الفرق بين هذا وذاك هو ان الذي يلعب في السرك والذي يمثل في فيلم يعلم بنتيجة المغامرات التي يقوم بها وهو يقوم بها انما للتعيش منها. ولهذا فان ممثل افلام «سوبرمان» لم يستطع انقاذ نفسه عندما تعرض لحادث حقيقي في حياته.

وقد حاول بعضهم تحليل نفسية اولئك الاشخاص الذين يستطيعون انقاذ انفسهم وغيرهم من المصاعب من خلال مقارنة مع اشخاص يتعرضون للظروف نفسها. فهناك من يدخل المعتقل السياسي ليخرج مهزوما منهارا ومتخليا عن كل شيء، بل وفي بعض الاحيان معاونا لمن ظلمه وعذبه، وهناك من يخرج كما خرج نيلسون مانديلا، بطلا ومفكرا وقائدا سياسيا. ما هي يا ترى تلك الخصال التي تجعل الانسان يختلف عن غيره في الخروج من الظروف القاهرة بانتصار وعزة وكرامة؟

يقول بعض علماء النفس، والعهدة عليهم، ان الاشخاص الناجحين يتصفون بعدة خصال، منها انهم ايجابيون وينظرون إلى كل ظرف ليشخصوا التحدي وكيفية الانتصار على التحدي. في مقابلهم هناك السلبيون الذين لا يتوقفون لحظة عن تقديم الشكاوى من كل صعوبة يواجهونها، صغيرة كانت أم كبيرة. هؤلاء السلبيون يرون كل يوم وفي كل ظرف يعايشونه آلاف الاسباب لتقديم الشكاوى وندب حظهم ولعن اليوم الذي ولدوا فيه والظروف التي وجدوا فيها. طبعا هذا لا يعني ان الانسان لا يمكن له ان يشتكي، ولكن المقصود ان الشكاوى تصبح النمط الملازم والمستمر لحياة هذا الانسان (امرأة أو رجلا) وان هذا الانسان ينظر الى نصف كأس نصف الماء المملوءة ليركز على النصف الخالي من الماء. انه سلبي في كل حياته ولا يستطيع ان يرى الفرص التي تتاح له أثناء التحدي.

الشخص الناجح هو الشخص الذي يعلم ويشخص متى ينحني ومتى يطوع بعض اساليبه لظرف قاسٍ، لا لكي يتنازل عن مبادئه وانما لكي يحفظ نفسه ويستعيد نشاطه وحيويته. انه ايضا شخص مستعد لمراجعة بعض تصوراته عن الحياة وعدم الثبات على افكار تمنعه من المشاركة الفعالة في الشئون والقضايا والمهمات المطروحة في اجوائه. انه مستعد لأن يستخدم ابداعه لكي يصحح من مساره او من مسار ظروفه.

خصلة اخرى تتمثل في انه شخص منظم في حياته. منظم بمعنى ان المهمات الملقاة عليه في حياته اليومية لا تذهله ولا يتركها تذهله. بل له تصور عن مجمل ما هو مطلوب منه وما يمكنه القيام به وتنفيذ تلك المهمة بحسب ترتيب معين. هناك من الاشخاص تراه جالسا كالمشلول، لا يعلم اي شيء يقوم به. هل يذهب إلى السوق ام يذهب إلى عمل آخر، يمضي اليوم والشهر وتمضي السنة. والشخص مازال يفكر بأي عمل يبدأ.

خصلة اخرى انه شخص مبادر. انه يبادر بالنشاط بالحلول، بالاستيضاحات، بالتصحيح، بالمناقشة، بتحدي الاخطاء، الخ. الشخصيات والمجموعات التي تحاول ان تكون في مواقع قيادية تطرح دائما نفسها بصورة مبادرات واقتراحات ومشاركات نوعية وجادة وهادفة.

خصلة اخرى هي ان الشخص يمتلك وضوحا عما يريد تحقيقه في هذه الحياة، وهذا الوضوح ليس بالضرورة ان يكون مفصلا ولكن يكفي الاجمال في الامر. فلو سألت انسانا: ما مهمتك في هذه الحياة؟ فقد يجيبك: نريد ان نعيش! هذا الشخص واضح انه يتجه إلى التأقلم وانتظار ساعة موته لكي يتخلص من المعاناة والظروف. اما لو اجابك الشخص: اريد ان استحصل على الامر الفلاني، او أريد ان أمارس دوري لخدمة امتي، أو ما شابه، فان هذا الشخص يمكنه الاهتداء في الاوقات الحرجة إلى ما يخلصه من مصائب تقع. وهناك خصال اخرى تندرج ضمن ما ذكر اعلاه، ولكن الاهم من ذلك هو ان قدرة الانسان ترتبط ايضا بما تدرب عليه واهل نفسه به لمواجهة التحديات (اذا كان ايجابيا) أو للاستسلام إلى المصائب (اذا كان سلبيا). اذا كانت تلك القدرات والمهارات تساوي التحديات فان الشخص يبقى من دون تغيير في حياته، ومن تساوى يوماه فهو مغبون، اما اذا كانت قدراته اقل من التحديات فانه الشخص السلبي الذي يشتكي دائما ويندب حظه باستمرار. ولكن اذا كان الاستعداد بالقدرات قد شخص التحديات المقبلة فان الانسان باستطاعته ان يحدث التغيير الايجابي (على الأقل من وجهة نظره الشخصية).

لا علم لي اذا كان اخونا الذي أنقذ نفسه من الموت المحتم كان قد اطلع على أي من هذه النظريات، ولكنه بالتأكيد حصل عليها بفطرته ان لم يكن بخبرته والاهم من ذلك انه استطاع استخدامها عند الحاجة وأنقذ نفسه

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 235 - الإثنين 28 أبريل 2003م الموافق 25 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً