العدد 2370 - الإثنين 02 مارس 2009م الموافق 05 ربيع الاول 1430هـ

هل البحرين دولة متعددة الثقافات؟ (3 - 3)

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

قد يكون من الصحيح أن هوية الناس تتشكّل أو تتشوّه، جزئيا كما يقول تشارلز تايلور، بواسطة الاعتراف أو عدمه، إلا أن الصحيح كذلك أن سياسات الاعتراف قد تتسبب في نوع من الظلم والاضطهاد والتشويه الذي سيكون من نصيب هوية الأفراد والفئات المنشقة داخل الجماعة التي كسبت معركة الاعتراف.

أشرنا في المقالة السابقة إلى أن التحدي الأهم فيما يتعلق بالتعددية الثقافية في دولة مثل البحرين لا يكمن في نجاح الدولة في تدبير سياسات الاعتراف بالأديان والقوميات المتعددة (اليهود، والمسيحيين، والبهائيين، والبوذيين والهندوس...)، بل يكمن، على وجه الخصوص، في التدبير الحكيم لسياسات الاعتراف بالطائفتين المذهبيتين الأساسيين في المجتمع (الشيعة والسنة). ومع هذا، فإن الدولة قد تنجح في تجاوز هذه العقبة، ولكن سيكون لزاما عليها أن تحسم أمرها في الاعتراف بحق الأفراد في الخروج عن جماعتهم المذهبية، وفي الاعتراف بالتنوع الحاصل داخل الجماعة المذهبية الواحدة. فإذا اعترفت الدولة بالمذهبين السني والشيعي، فهذا لا يعني نهاية المشكلة؛ لأن الشيعة، كما السنة، ليسوا كتلة صماء لا تعرف التنوع والانشقاق الفردي أو الجماعي، بل حالهم، في ذلك، كحال أية جماعة في العالم. وتنطوي كل جماعة على تنوعات سياسية وفقهية ومناطقية ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار. فالشيعة في البحرين، على سبيل المثال، اسم عام لجماعة تنطوي على تنوعات كبيرة بعضها ذو طابع فقهي اجتهادي (كما هو الحال في الاختلاف بين الأصوليين والإخباريين، وكما هو الحال في التنوع وحتى الخصام الحاصل بسبب اختلاف مرجعيات التقليد في كل جماعة)، وبعضها يرجع إلى جذور سياسية - فقهية (كما هو الحال في الاختلاف القائم بين تيار المجلس العلمائي، وتيار المرحوم الشيخ سليمان المدني، وتيار «الرساليين» من أتباع المرجع المرحوم السيد محمد حسين الشيرازي). وهناك، إضافة إلى هذه التنوعات، ما يمكن أن نطلق عليهم اسم «الشيعة المعتدلين»، وهم شيعة غير منتمين لا سياسيا ولا أيديولوجيا، وهناك الشيعة العلمانيون الليبراليون واليساريون، وتيارات فرعية أخرى. وهناك كذلك انشقاق «جماعة التجديد»، وهم جماعة من الشيعة المتدينين وعُرفوا محليّا، ومنذ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، بـ «جماعة السفارة»، وهو اسم صار مرفوضا من قبلهم، بل هدّدوا، مؤخرا، بمقاضاة كل من يستخدمه. وهذا الانشقاق الأخير ذو دلالة مهمة فيما نحن بصدد إدارة النقاش حوله. فهذه جماعة شيعية ظهرت في الثمانينيات، وحاصرها رجال الدين الشيعة آنذاك بتهمة الضلال والابتداع والخروج على ثوابت المذهب، ثم صدرت بحقها فتاوى بالمقاطعة والتكفير من قبل مرجعيات شيعية في العراق وإيران والبحرين.

والسؤال هو كيف ستتعامل الدولة مع كل هذه التنوعات والانشقاقات إذا كانت تعترف رسميا بالمذهب الشيعي؟ ربما سيكون على الدولة أولا أن ترسم الحدود النهائية لهذا المذهب بحيث تتمكن من تحديد ما ينتمي إليه وما لا ينتمي إليه من معتقدات وأفكار وممارسات ونصوص وشخصيات «مقدسة». ولكن من سيرسم هذه الحدود؟ هل الدولة أم المرجعيات الدينية داخل الجماعة؟ وأية مرجعية على وجه التحديد؟ وهل الدولة ملزمة بالأخذ برأي المرجعيات الفقهية الشيعية في هذه المسألة؟ والحاصل أن هذا النوع من الجدل قد أصبح متداولا لارتباطه بالجدل الدائر منذ سنوات حول «قانون أحكام الأسرة». ومن المعروف أن ستة من كبار رجال الدين الشيعة في البحرين أعلنوا رفضهم إحالة مشروع «قانون أحكام الأسرة» على مجلس النواب مطالبين بضمانة دستورية ثابتة تمنع تغييره مستقبلا إلا بعد عرضه على المرجع الأعلى للشيعة وموافقته ضمانا لـ «الشرعية الدينية». ولكن إذا كان على الدولة أن تأخذ برأي المرجع الأعلى للشيعة في النجف من أجل اعتماد «قانون أحكام الأسرة»، فهل سيكون على الدولة، كذلك، أن تعتمد على رأي المرجع الأعلى في كل شأن ديني يخصّ الشيعة؟ ماذا لو أصدر المرجع الأعلى فتاوى بتكفير جماعة من المواطنين بحجة أنها أنكرت ثابتا من ثوابت المذهب كما حصل مع «جماعة التجديد»؟ هل على الدولة أن تقيم على هذه الجماعة الحدود العقابية لهذا السبب؟

ولنفترض أن جماعة شيعية انشقت عن التيار العام، وقادها انشقاقها إلى اجتهادات فقهية مختلفة بصورة كبيرة عن المعهود العام في مدونة الفقه الشيعي، أليس على الدولة، عندئذٍ، أن تعترف باجتهادات هذه الجماعة، وأن تترجم هذا الاعتراف بإنشاء محكمة جعفرية فرعية خاصة بها أو باعتماد رأي مرجعها الديني في أحوالها الشخصية؟ وهذه عملية لا تقف عند حد، فكل تيار معرّض للانشقاق، وكل جماعة منشقة معرضة هي ذاتها للانشقاقات الداخلية وهكذا. فهل على الدولة أن تلاحق كل انشقاق داخلي لتمنحه اعترافا متساويا؟ ثم ماذا عن الشيعة العلمانيين؟ أليس من حق هؤلاء أن يطالبوا الدولة بالاعتراف بهم كما هم يريدون أي بصفتهم علمانيين من حقهم أن يحتكموا في أحوالهم الشخصية لقوانين مدنية وأمام محاكم مدنية؟

صحيح أن الاعتراف مطلب أساسي في التعددية الثقافية، وصحيح أنه قد ينجح في تخفيف حدة التوترات والصراعات الجماعية، إلا أن الصحيح، كذلك، أن الاعتراف قد يكون معضلة حقيقية أمام الدولة في المجتمع التعددي. وقد يكون عاملا من عوامل تأجيج التوترات بين الجماعات المتنافسة، فبدلا «من تصفية الأجواء بين الفئات المختلفة من المواطنين»، نجد أنفسنا «قد أنشأنا نظاما لا ينتهي من المزايدات والاحتجاجات والمطالب الحقودة مع سياسيين جعلوا منه علة وجودهم وخبزهم اليومي»، وقد نجد أنفسنا نترجم الاعتراف بهوية وحقوق الجماعة في صورة اعتراف بصفوة الجماعة، بزعمائها وأمرائها ورجال الدين فيها. فالاعتراف بانتماء الفرد الديني، على سبيل المثال، يتحوّل إلى تعزيز سطوة رجال الدين داخل الجماعة.

كما تتجاهل سياسات الاعتراف حقيقة أن وجود البشر معرّض للاختزال في انتماء أحادي يراد له أن يكون حتميا وهو الانتماء المعترف به رسميا. وفي حالتنا السابقة سيكون على الشيعة في البحرين أن يختزلوا وجودهم في انتمائهم المذهبي، وأن تمر علاقتهم بالدولة وخدماتها عبر هذا الانتماء فقط. ومن المؤكد أن المقصود هنا ليس أن يكون من حق الشيعي، على سبيل المثال، أن ينظر إلى نفسه مرة على أنه شيعي، وأخرى على أنه سني، وثالثة على أنه مسيحي وهكذا، بل المعنى أن من حقه، ومن حق الآخرين كذلك، أن ينظر إلى نفسه على أساس انتماءاته المتعددة من حيث العرق والطبقة والجنس والمهنة وغيرها، كما أن من حقه أن يتعامل بمرونة مع كل هذه الانتماءات، أو ألا ينتمي لأيٍّ منها. وإذا كان من واجب الدولة أن تعترف بانتماءات الناس المذهبية أو الدينية أو العرقية، فإن من واجبها كذلك أن تعترف بصلتهم الوثيقة بكل انتماءاتهم المتعددة، وأن تعترف، كذلك، بأن الانتماء المذهبي أو الديني أو العرقي ليس هو الانتماء الوحيد، ولا هو المهم والحاسم في حياة الناس دائما.

ومن بين المفارقات في هذا السياق، أن تشارلز تايلور الذي أصّل لمفهوم الاعتراف بما هو حاجة إنسانية ملحة وحيوية، هو نفسه الذي ذهب إلى القول بأن عدم الاعتراف أو سوء الاعتراف يمكن أن «يكون نوعا من الاضطهاد وسجن الشخص في صيغة من الوجود مختزلة ومشوّهة وخاطئة». لقد رفض تايلور عدم الاعتراف وسوء الاعتراف بحجة أنهما سيتسببان باختزال الناس في هذه الصيغة المشوهة والخاطئة من الوجود، وفات تايلور أن الاعتراف ذاته قد يتسبب، كذلك، في هذا الاختزال الذي رفضه. لا أحد يجادل في أن عدم الاعتراف أو سوءه يمكن أن ينتهيا باختزال الإنسان في «صيغة مشوهة وخاطئة» من الوجود، فالدولة التي تعترف بقومية واحدة ودين واحد فقط وتنكر أي اعتراف ببقية القوميات والأديان تقوم باختزال وجود أبناء القومية والدين الرسميين بصورة إيجابية، وهذا نوع من الاختزال يمكن أن نطلق عليه مصطلح «الاختزال الامتيازي» وهو اختزال تتسبب فيه هذه الدولة حين تعطي لأناس معينين امتيازات خاصة لا لشيء سوى أنهم من أبناء القومية الرسمية أو من أتباع الدين الرسمي. وعلى النقيض من هذا، يقوم «الاختزال التمييزي» بتقليص وجود الإنسان بطريقة سلبية حيث يحرم المرء من حقوقه لا لشيء سوى أنه من أبناء قومية غير معترف بها أو دين غير رسمي. حصل هذا مع اليهود الألمان في حقبة النازية، وحصل مع السود في جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري (الأبارتهيد)، وحصل مع أكراد تركيا منذ قيام جمهورية أتاتورك القومية، وحصل مع أكراد العراق وتركمانه وشيعته وأقلياته الأخرى في فترات متعاقبة من حكم الأنظمة المستبدة، وعادة ما يحصل ذلك مع النساء وذوي الميول الجنسية المثلية ومع كثير من الأقليات والمهمشين حول العالم. والأخطر من ذلك أن هذا النوع من «الاختزال التمييزي» قد يتجاوز حدود الحرمان من الحقوق لينقلب إلى تبرير للإبادة الجماعية والتطهير الديني أو العرقي.

وعلى هذا، فإن الفئات المهددة تطالب باعتراف الدولة بها من أجل رفع الظلم الذي تبتلى به في ظل غياب هذا النوع من الاعتراف. إلا أن الاعتراف المطلوب هنا لا يعني بالضرورة أن تعترف الدولة بلغة الجماعات المهمشة وأديانها وقومياتها بصورة رسمية، فاليهود الألمان، على سبيل المثال، لم يطالبوا بأن يكون الدين اليهودي دينا رسميا في الدولة الألمانية. إلا أن هذا لا يمنع أن تذهب الجماعات المهمشة إلى حد المطالبة باعتراف رسمي بدينها أو قوميتها، فأكراد العراق، على سبيل المثال، كانت لهم مطالب بالاعتراف الرسمي بقوميتهم ولغتهم، وهذا ما جرى تضمينه في دستور العراق الجديد حيث تنص المادة (3) من الباب الأول على أن «العراق بلدٌ متعدد القوميات والأديان والمذاهب»، وفي المادة (4) نص صريح على أن «اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق»، ويترتب على هذا جملة أمور نصّ عليها الدستور.

ينبغي، إذن، التمييز بين نوعين من الاعتراف الرسمي: النوع الأول يتطلب من الدولة أن تمنح بعض الجماعات والثقافات والقوميات اعترافا خاصا بحيث تجري ترجمة ذلك في إنشاء مؤسسات خاصة بكل جماعة، وفي حقها بتدريس دينها ولغتها في المدارس العامة، وفي حقها في التمثيل المتساوي في أجهزة الدولة الإعلامية. وهناك نوع آخر من الاعتراف وهو أن تعترف الدولة بأحقية هذه الجماعات في المواطنة المتساوية، وألا تمارس التمييز ضد أفرادها بسبب انتمائهم الجماعي، وأن تترك الناس أحرارا يتدبروا هم شئونهم الدينية والثقافية والقومية وغيرها من الشئون الخاصة بالجماعات دون تدخّل امتيازي أو تمييزي من قبل الدولة. وباستخدام مفاهيم أشعيا برلين حول الحرية الإيجابية والسلبية، يمكن التعبير عن هذا النوع الأخير من الاعتراف بمصطلحات «الحرية السلبية»، حيث يكون الأفراد أحرارا في الانتماء إلى هذه الجماعة أو تلك، أو في عدم الانتماء لأية جماعة، وذلك دون تدخّل من قبل الدولة لا في حالة الانتماء ولا في حالة عدم الانتماء.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2370 - الإثنين 02 مارس 2009م الموافق 05 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً