العدد 2440 - الإثنين 11 مايو 2009م الموافق 16 جمادى الأولى 1430هـ

هل هناك انتماء حتمي وأبدي؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

قد يكون الانتماء إلى الجماعة، في المجتمعات الهشّة في تضامنها والمفرطة في فردانيتها، مصدرا من مصادر الثقة المتبادلة والمسئولية العامة والدفء في العلاقات الاجتماعية، إلا أن هذا الانتماء قد يتحوّل، في مجتمعات ذات انتماءات مفرطة في تضامنها، إلى مصدر من مصادر التضييق على حرية الأفراد وقمع اختياراتهم واستقلاليتهم. وأكثر من هذا، فإن هذا الانتماء قد يكون مصدرا من مصادر العلاقات المتوترة والخصومية بين الجماعات؛ والسبب أن الانتماء بطبيعته يقوم على التصنيف المزدوج، فهو يدمج الفرد في علاقات حميمية مع أناس مماثلين من جهة، ويبعده، من جهة أخرى، عن آخرين مختلفين. وبتعبير أمارتيا صن فإن «شعورا بالهوية يمكن أن يستبعد تماما كثيرا من الناس على الرغم من ترحيبه الحار بآخرين».

وفي المجتمعات المتوترة جماعيا، وتلك المنخرطة في حروب ونزعات أهلية طائفية أو دينية أو عرقية، فإن الشعور بالهوية لن يكتفي باستبعاد الآخرين المختلفين فحسب، بل سيجعل من هؤلاء المختلفين أهدافا مقصودة بالعنف والتصفية والإبادة. وعلى هذا، فقد يتعرّض شخص بريء للتصفية في مجتمع منغمس في حرب أهلية لا لشيء سوى أنه ينتمي إلى جماعة مختلفة، ولا يهمّ هنا أن يكون هذا الانتماء انتماء فعليا وملتزما بقرارات الجماعة ومصالحها، بل يكفي أن يكون اسم هذا الشخص يشابه أسماء هذه الجماعة المستهدفة، أو لونه من لونها، أو هيئته من هيئتها، فهذا يكفي ليكون هذا الشخص البريء هدفا للقتل والتصفية. حصل هذا في أماكن عديدة حول العالم، حصل بين الهوتو والتوتسي، وبين الصرب والبوسنيين، كما أن أبرياء كثيرين قُتلوا في العراق في السنوات الخمس الأخيرة وعلى أيدي متطرفين سنة وشيعة، لا لشيء سوى أن أسماء الضحايا وأماكن سكناهم تنمُّ عن انتمائهم المذهبي للشيعة أو للسنة. وهذا مصير كل المجتمعات المفرطة في كثافتها والمبتلاة بمثل هذه الحروب والنزاعات الطائفية والعرقية.

هناك علاقة دعم وتغذية متبادلة بين العدوانية والتضامن المفرط داخل الجماعة، فالجماعات مفرطة الكثافة عادة ما تكون ذات قابلية لأن تصير عدوانية وعنيفة وعلى أهبة الاستعداد للانخراط في نزاعات أهلية، ولأن تكون من «الهويات القاتلة» كما يسميها أمين معلوف. ومن جهة أخرى، فإن النزاعات الجماعية تغذّي الانتماء الحتمي للجماعة، بحيث يصبح كل فرد في الجماعة عضوا ملتزما ومستعدا لتلبية نداء الجماعة بالانخراط في المواجهة أو النزاع المسلّح. كما أن الانتماء المطلق والحتمي ومفرط الكثافة لهوية وحيدة ومتفردة هو أحد العوامل المساعدة على إثارة التوتر والمواجهة بين الجماعات. وهذا ما يجعل المجتمعات المكونة من جماعات متعددة ومتضامنة ومفرطة في كثافة انتماءاتها، عرضة للانزلاق إلى الحروب الأهلية حين تمرّ هذه المجتمعات بفترات من الاختلال أو الانتقال السياسيين، حدث هذا بين الهندوس والمسلمين إبان سياسات التقسيم في الأربعينيات، وحدث في لبنان في فترات متعددة من الاختلال السياسي، وحدث بين الصرب والكروات والبوسنيين في يوغسلافيا السابقة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وحدث في أفغانستان بعد انتصار جماعات المجاهدين وطرد السوفيات، وحدث في العراق بعد التدخّل الأميركي والإطاحة بنظام البعث.

يكمن الحل، في نظر كثيرين من بينهم أمين معلوف وأمارتيا صن، في تحريك الانتماءات المتنوعة أو الهويات المنافسة، وفي تجاوز المقاربة الانعزالية والحتمية للهوية والجماعة؛ لأننا «ما إن نعتبر الهوية مجموعة من الانتماءات المتعددة (...)، ما إن نرى في كياننا وجذورنا ومسارنا روافد وإسهامات وتلاقحات متنوعة وتأثيرات مختلفة ودقيقة ومتناقضة، حتى تنشأ علاقة مغايرة مع الآخرين، وكذلك مع «العشيرة» التي ننتمي إليها». وبناء على هذا، فقد كان على ذاك العامل من طائفة الهوتو أن يعي أنه «ليس مجرد شخص من الهوتو، فهو أيضا كيغالي، وراوندي، وإفريقي، وعامل، وكائن بشري». كما سيكون على ذاك المتطرف العراقي السني أو الشيعي أن يعي أنه ليس مجرد سني أو شيعي، بل هو عراقي، وعربي، ومسلم، وكائن بشري. ويعلّق أمارتيا صن مستقبل السلام في العالم المعاصر على ضرورة الاعتراف بهذه الهويات المنافسة والمتعددة التي هي واحدة من بدهيات حياتنا العادية. وبأسلوب يذكّر بهوارس كولين وجون غراي وأمين معلوف، يذهب صن إلى التشديد على أننا «نرى أنفسنا أعضاء لمجموعة متنوعة من الجماعات، ونحن ننتمي إليها جميعا. فكل إنسان له مواطنة، ومكان إقامة، وأصل جغرافي، ونوع جنسي، وطبقة، وانتماء سياسي، ومهنة، ووظيفة، وعادات لطعامه، واهتمامات رياضية، وذوق موسيقي، والتزامات اجتماعية، الخ، وكل هذا يجعلنا أعضاء في جماعات متنوعة (...) ليس فيها ما يمكن أن يؤخذ على أنه الهوية الوحيدة للمرء، ولا التصنيف الوحيد لعضويته في المجتمع». والإيمان بحقيقة انتماءاتنا المتعددة يعني الإقرار بأهميتها النسبية - لا المطلقة - في حياتنا ومصيرنا؛ لأننا إذا كنا ننتمي إلى كل هذه الجماعات، فإننا، كما يقول جون جراي، «لا ننتمي فعليا انتماء تاما» لأيٍّ منها.

وبناء على هذا، فإن ما يحتاجه أبناء «الهويات القاتلة» هو فقط أن نذكّرهم بهذه الحقيقة، بحقيقة أنهم ينتمون، دائما، إلى أكثر من انتماء وإلى أكثر من هوية، وأن هناك الكثير من القواسم المشتركة بينهم وبين الآخرين بما فيهم أعداؤهم المباشرون. ليس ثمة آخرية مطلقة، كما ليس ثمة انتماء مطلق ونقي وحتمي. الانتماء والآخرية مقولات ثقافية (اجتماعية)، وما هو ثقافي متغيّر باستمرار، ولا يعرف الحتمية والأبدية على الإطلاق. فما نعدّه عدونا قد يتحول، مع الزمن، إلى جزء من هويتنا، والعكس صحيح، وتاريخ التحولات في الهوية شاهد على ذلك.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2440 - الإثنين 11 مايو 2009م الموافق 16 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً