العدد 2454 - الإثنين 25 مايو 2009م الموافق 30 جمادى الأولى 1430هـ

إقناع الآخرين: المهمة شبه المستحيلة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

حرية الاختيار، كما أوضحنا في مقالة الأسبوع الماضي، قابلة للتنفيذ حتى مع وجود الضغوط، ولكنها «تعتمد على السمات الشخصية للفرد، وعلى الظروف التي تحدد الإمكانات البديلة المتاحة لنا». وبما ان الأفراد يتباينون في سماتهم الشخصية، فإنهم يختلفون في قدرتهم على تأكيد اختياراتهم أو حتى الإقدام عليها، فهناك أشخاص جبناء وخاملون بحيث ينصاعون لقرارات الجماعة من دون أية ضغوط تمارس عليهم، وفي المقابل هناك آخرون لديهم من الشجاعة ما يكفي لأن يقدموا على اختياراتهم بحرية، وأن يتحملوا مسئولية اختياراتهم حتى لو انتهى بهم الأمر إلى الطرد والمقاطعة من قبل جماعتهم. ثم هناك مسألة البدائل المتاحة أمامنا لممارسة حرية الاختيار، وعلى هذا فإن حرية اختيار الهوية الثقافية في مجتمع مؤلف من هويتين دينيتين فقط، محدودة إذا ما قيست بالحرية المتاحة في مجتمعات متعددة بصورة كبيرة وعلى أسس متنوعة: عرقية، دينية، أيديولوجية، جنسية، طبقية، مهنية... إلخ. والحاصل أن المجتمعات من النوع الأول نادرة الوجود في العصر الحديث، فالتداخل الثقافي - أو ما يسميه تشارلز تايلور حالات «التسرّب» بين الثقافات - في الوقت الراهن يفتح المجال واسعا للاختيار بين بدائل شتّى.

كانت حرية الاختيار، على سبيل المثال، محدودة أمام البحريني قبل قرن أو يزيد حيث لم يكن متاحا أمامه من بدائل سوى أن يكون سنيا أو شيعيا، إلا أن البدائل المتاحة أمامه اليوم واسعة لأن يبقى سنيا منتميا أو شيعيا منتميا كما كان أسلافه، أو لأن يختار أن يكون يهوديا أو مسيحيا أو بهائيا أو هندوسيا أو علمانيا شيوعيا أو ليبراليا أو قوميا أو نسويا أو لامباليا تجاه كل هذه الانتماءات.

ومع الاعتراف بأن هذه الحرية قابلة للتنفيذ، إلا أنها تبقى حرية مقيدة بضغوط تمارسها الجماعة للحفاظ على أفرادها وعدم التفريط فيهم، كما يمارسها أبناء الجماعات الأخرى - وخاصة الجماعة الغالبة والمهيمنة - بغاية التحقير والحط من كرامة المختلفين أو حتى بقصد إقصائهم والتمييز ضدهم. وهذا يعني أننا حتى لو كنا قادرين على الوقوف في وجه ضغوط جماعتنا فإن الصعوبة أمام تأكيد حريتنا في الاختيار لا تنتهي عند هذا الحد، بل ستظلّ أمامنا «صعوبة في القدرة على إقناع الآخرين أن يرونا بهذه الطريقة وحدها» كما يقول أمارتيا صن. وأتذكّر أن أحد الباحثين البحرينيين وهو أكاديمي مرموق ينحدر من أسرة شيعية منامية، ولديه وضوح في الكيفية التي يريد أن يرى بها نفسه كعلماني على الطريقة الليبرالية، إلا أن هذا الوضوح لم يمنع الآخرين من أن يرونه كشيعي قبل كل شيء. وقد صدر له في العام 2007 كتاب حول حركات الإسلام السياسي في الخليج، والتقى، مرة، صاحب إحدى المكتبات التجارية في البلاد، فبادره هذا الأخير بالتعبير عن اهتمامه بالكتاب، وأنه سهر الليل من أجل قراءته، إلا أنه فوجئ بأن سبب كل هذا العناء والاهتمام إنما يعود لأمر محبط حقا، وهو أن صاحب المكتبة كان يريد أن يرى ماذا قال هذا الكاتب الشيعي عن حركات الإسلام السياسي السنية! لم يكن هذا الباحث والأكاديمي يفتقر إلى الوضوح الكافي للكيفية التي يريد أن يرى بها نفسه كليبرالي قبل كل شيء، إلا أن هذا الموقف يثبت أن وضوحنا شيء، وإقناع الآخرين شيء آخر، ومن المؤسف أن المهمة الأخيرة هي الأكثر صعوبة ومشقة. أما إذا كنا نريد أن نقنع الدولة باختياراتنا الخاصة فإن مهمة الإقناع تصبح أقرب إلى المستحيل. ومن الثابت أن هذا الأكاديمي نفسه واجه أكثر من حالة استبعاد من الترشيح للفوز بأكثر من منصب في أكثر من جهة رسمية لا لشيء سوى كونه شيعيا، ليس تمييزا ضد الشيعة بالضرورة، بل لأن بعض المناصب يجري توزيعها وفق محاصصة طائفية، وإذا شغل شيعي الموقع المحدد للشيعة فإن فرص بقية الشيعة الآخرين تتلاشى لا لشيء سوى أنهم شيعة! وينطبق الأمر ذاته مع المواقع المحددة للسنة. وفي هذه الحالة لا يجدي نفعا إصرار هذا الشيعي أو ذاك السني على إثبات ليبراليته أو شيوعيته؛ لأن الآخرين يرونه شيعيا أو سنيا قبل كل شيء. وفي هذه الهوية الطائفية يتساوى جميع الشيعة وجميع السنة، وفيها تُختزل هوية هؤلاء جميعا، سواء كانوا دينيين أو علمانيين ليبرالين، أو يساريين، أو لا مباليين تجاه دينهم أو مذهبهم.

وقبل نحو العام، كنت في جلسة خاصة مع شخصية قريبة من إحدى الجهات الرسمية، ودارت بيننا نقاشات عديدة، إلى أن وصل بنا النقاش عند إحدى المؤسسات الثقافية الرسمية شبه المعطلة، فإذا بالرجل يطلب مني ترشيح أسماء لتنشيط هذه المؤسسة، لم أتردد في الترشيح، بل ذكرت له ستة أسماء مرموقة ومتنوعة في تخصصاتها واهتماماتها الثقافية والفكرية. فقال: حسنا فعلت، لأنك اخترت ثلاثة من السنة، وثلاثة من الشيعة! وتعجّبت من هذه الاستجابة، فما دخل السنة والشيعة في هذه القضية؟! لم يتملكني العجب من قدرتي الفائقة على إحراز هذه القسمة المضبوطة طائفيا لأول وهلة، ولا من ذلك الإصرار الغريب على المحاصصة الطائفية في مواقع لا دخل لها بقضية التمثيل السياسي، بل كان تعجبي من ثقة صاحبي في قدرته على فرز الناس طائفيا حتى الذين لا يعرفهم. وكان اللافت حقا في هذه الأسماء أنني أعرف الانتماء المذهبي الأصلي لخمسة منهم، وكلهم الآن لا يعيرون هذا الانتماء أية أهمية، ومعظمهم لا يرون في أنفسهم إلا كونهم ليبراليين أو يساريين أو مثقفين مستقلين ومن دون لواحق مذهبية أو أيديولوجية، إلا أني كنت أجهل، فعلا، الانتماء المذهبي للشخص السادس، لم أكن أعرف ما إذا كان هذا الشخص من أصول سنية أو شيعية، كل ما أعرفه عنه أنه مثقف محترم وروائي مهم ومبدع يستحق كل التقدير. إلا أن صاحبي قرّر أنه سني وهكذا دون سبب معتبر، وحتى دون أن تكون له معرفة بالرجل!

وعلى هذا، فإنه من الصحيح أن نقول إن الهوية مسألة اختيار، إلا أن الثابت كذلك أن هذا الاختيار لا يعني النجاح في إقناع الآخرين بالهوية التي نختارها لأنفسنا ونريد منهم أن يتقبلونا - أو حتى يرفضونا - بناء عليها. فهذا الروائي البحريني لم يسلم من تصنيف الناس له على أنه سنيّ! كما لم ينجح ذاك الأكاديمي البحريني في إقناع الآخرين بأن المهم في هويته ليس كونه سنيا ولا شيعيا، بل كونه مثقفا ليبراليا أو باحثا مستقلا قبل كل شيء.

مهمة الإقناع صعبة كما رأينا في المثالين السابقين، إلا أن ثمة أمثلة أكثر صعوبة وقسوة، فلو أن «شخصا غير أبيض تحت هيمنة الحكم العنصري (الأبارتهيد) في جنوب إفريقيا، ما كان يمكنه الإصرار على أن يعامل على أساس أنه كائن بشري فقط من دون اعتبار لصفاته العرقية. وكان لابد أن يوضع بشكل نمطي في التصنيف الذي تحدده له الدولة وأصحاب الهيمنة في المجتمع». وكذا الحال لو أن يهوديا ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين أصرّ على أن يعامله الألمان أو النظام النازي آنذاك على أنه ألماني أو حتى كائن بشري، لما انتهى به إصراره إلى شيء أبعد من معسكرات الاعتقال وغرف الغاز، لا لشيء سوى أنه يهودي، ويهودي فقط. لقد اختزلت النازية اليهود في يهوديتهم، كما اختزلت الصهيونية اليهود في يهوديتهم وأنهم «شعب الهولوكوست» فقط. الاختزال الأول أنتج مأساة اليهود في أوروبا، والاختزال الثاني خلق مأساة الفلسطينيين أو «ضحايا الضحايا» كما كان إدوارد سعيد يسميهم. وبهذه الطريقة ينجح الاختزال في إعادة إنتاج نفسه. والحاصل أن البشر أنفسهم يسهمون في اختزال وجودهم كرد فعل على اختزال الآخرين لهم، فإذا كان الآخرون يعاملوني على أني سني فإني سأعمد إلى تعزيز ذلك وسأنظر إلى نفسي على أني سني، وسني فقط، فالأشخاص حين تجري معاملتهم «على أنهم كتلة صماء، عندها يكون من العقلاني أن تكون استجابتهم لهذه المعاملة على نحو جمعي». وهم يتوهمون أنهم يقاومون اختزال الآخرين لهم باختزال أنفسهم.

ولكن هل من واجبي أن أقنع الآخرين باختياراتي الخاصة على مستوى الهوية الثقافية والانتماء الثقافي؟ قد يتأثر المرء بنظرة الآخرين إليه، قد يتعرض للأذى، وقد يُحرم من امتيازات كثيرة على مستوى الوظائف والمناصب وغيرهما بسبب نظرة الآخرين إليه على أنه ابن الطائفة الفلانية وابن العرق العلاني، إلا أني أتصور أن مهمة إقناع الآخرين ليست من مسئولياته. عليه أن يترك هذه المهمة وراء ظهره ليس لأن إقناع الناس غاية لا تدرك، بل لأن إقناع الناس ليس غاية لتدرك. الاختيار مسألة شخصية قد تترتب عليها بعض المسئوليات والتبعات والمصاعب، وعلينا أن نكون قادرين على مواجهتها بقوة وبرحابة صدر. أما إقناع الدولة فهي مسألة أخرى، لأنها مرتبطة بحقوق وواجبات عامة علينا ألا نكفّ عن المطالبة بها. قد نختلف في مسألة إقناع الدولة بأن من واجبها أن تعترف بهوياتنا الثقافية، لكننا، من المؤكد، متفقون على أن من واجبنا المضي قدما في سبيل إقناع الدولة بأن من واجبها أن تعاملنا كمواطنين، وكمواطنين فقط، وذلك في حال تعذر تطبيق صيغ التعددية الثقافية المختلفة في هذه الدولة.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2454 - الإثنين 25 مايو 2009م الموافق 30 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً