العدد 2514 - الجمعة 24 يوليو 2009م الموافق 01 شعبان 1430هـ

محكمة لاهاي ذبحت العدالة في أبيي

عزوز مقدم Azzooz.Muqaddam [at] alwasatnews.com

قامت محكمة التحكيم الدولية في لاهاي الأربعاء الماضي بتسوية سياسية للنزاع الدائر بين شمال وجنوب السودان حول منطقة أبيي. المنطقة تاريخيا تتبع لشمال السودان وقطنتها قبائل المسيرية العربية البدوية منذ 1770م بحسب المؤرخين ووثائق الحكم البريطاني إذ ألحقها المستعمر إداريا بولاية كردفان. وبما أن أبناء المنطقة من الجنوبيين الذين استضافتهم قبائل المسيرية في وقت لاحق قد تأثروا بحركات التمرد الجنوبية الانفصالية، فإنهم آثروا استقطاع المنطقة وضمها لجنوب السودان. ولكنهم لم يحلموا يوما ما بالحصول على مساحة شاسعة تبلغ 10 آلاف كيلومتر مربع كالتي منحتها إياهم محكمة لاهاي الأسبوع الجاري لأن النزاع أساسا حول بلدة(أبيي) التي تقطنتها غالبية جنوبية وليست الأراضي التي تقع شمالها بحجم دولة كاملة.

لقد ارتكب خطأ جسيم منذ بدء محادثات السلام في كينيا العام 2005عندما أصر المتمردون الجنوبيون سابقا(مسيحيون) على إيجاد حل يفضي إلى فصل بلدة أبيي عن إقليم كردفان. لم يطالبوا طوال الحرب الأهلية بضم المناطق الشاسعة شمال (بلدة أبيي) لأن ببساطة لا آثر استيطاني لقبائلهم (دينكا نقوك) هناك. وفي ظل الضغوط الأميركية وإصرار المفاوضين الجنوبيين على مطلبهم الانفصالي وعدم معرفة مفاوضي الحكومة السودانية بطبيعة المنطقة، اتفق الجانبان، حتى ينهوا ربع قرن من القتال،على بروتوكول للحل في المنطقة يقضي بتكوين لجنة سميت بلجنة «الخبراء» كانت بالفعل لجنة «خبثاء» برئاسة السفير الأميركي لدى السودان. كان تجاوز هذه اللجنة لحدود تفويضها بمثابة الطامة الكبرى التي أتت على حقوق أهل المنطقة الأصليين من قبيلة المسيرية، فقد تطوعت بالقيام بمهمات لم تطلب منها في اتفاق السلام. استقطعت لجنة الخبراء مساحة 18500 كيلومتر مربع شمال (بلدة أبيي)، بحيث تشمل حقول النفط، وقالت في تقريرها إن أبيي تشمل كل هذه المساحة وبالتالي يجب منحها للجنوب،الأمر الذي رفضه رئيس الجمهورية عمر البشير وظل متشبثا برفضه طيلة أربع سنوات إلى أن تم الاتفاق أخيرا على رفع القضية برمتها إلى محكمة لاهاي.

ارتكبت حكومة الخرطوم ثاني خطأ حينما طلبت من محكمة لاهاي الإجابة على سؤال واحد مفاده هل الخبراء الذين كان يترأسهم السفير الأميركي تجاوزوا تفويضهم في رسمهم للحدود أم أنهم كانوا على صواب؟. وطلبت حكومة الخرطوم من المحكمة إن كان الخبراء على صواب فإن تقريرهم الأول سيعتمد كحل للقضية أما إن كانوا مخطئين فعلى المحكمة أن تفصل في القضية مجددا وتعيد ترسيم الحدود وهذا ما حدث ولكن بلعبة لا تختلف كثيرا عن تقرير الخبراء.

لانلقي اللوم هنا على محكمة لاهاي في تبنيها لتقرير الخبراء بشأن ترسيم حدود المنطقة الشمالية، وهي الأهم إذ التهمت كل مناطق قبائل المسيرية، ولكن المسئولية تقع على حكومة الخرطوم التي تساهلت منذ البداية في القبول بـ«خبراء» أجانب لا يعرفون شيء عن تاريخ المنطقة علاوة على انحيازهم الطبيعي للجنوب المسيحي وأخيرا احتكامها إلى لاهاي، التي تطالب بتوقيف الرئيس البشير نفسه.

المناطق الشمالية لمنطقة أبيي لا يوجد فيها سكان جنوبيين(دينكا نقوك) وهي تمثل مزارع ومراعي طبيعية للقبائل العربية البدوية وحتى تسمياتها عربية بحتة ومن تلك المناطق التي أهدتها المحكمة إلى الجنوب زورا وبهتانا حقل نفط دفرة، والرقبة الزرقاء،والنعام، والدبب، وانتلة وغيرها. ولكي تحفظ المحكمة الموقرة ماء وجهها قالت إن الخبراء تجاوزوا تفويضهم في ترسيم الحدود الشرقية والغربية للبلدة(أبيي) وهذا لا معنى له لأن شرق وغرب البلدة يتبعان ضمنا للأقاليم الجنوبية بحر الغزال وأعالي النيل ولذلك لا معنى لإعادة الترسيم فيها.

وعند تحديد إحداثيات خريطة المنطقة، خرج حقل النفط في هجليج بأعجوبة من هذه المؤامرة وأصبح ضمن شمال السودان وهو ما يفسر ترحيب الحكومة السودانية بقرار المحكمة. ولكن يجب ألا ننسى أن حقول نفطية أخرى تم اغتصابها بالإضافة إلى فقدان المسيرية لمناطقهم التي ترعرعوا فيها منذ القرن الثامن عشر الميلادي بعكس الجنوبيين الذي جاؤا نازحين للمنطقة العام 1905.

نستنتج من كل هذه التسوية الضيزى، التي أعطى فيها من لا يملك( الغرب) من لا يستحق (جنوبيو السودان) أن الدول الغربية مهما تشدقت بالعدل والمساواة وخصصت إلى ذلك مؤسسات فإنها تظل دائما تكيل بمكيالين تجاه من يناوئها. وبما أن حكومة الخرطوم ليست في توافق مع الغرب فمن البديهي ألا يحكم لصالحها أو لمصلحة أنصارها. وهذا بالطبع ينطبق على كل دولة لا تذعن للاملاءات الغربية.

وبالعودة إلى أرض الواقع فإن المطلوب من المواطنين في أبيي، سواء كانوا قبائل مسيرية أو دينكا نقوك الجنوبية، أن يصلوا إلى صيغة تعايش مشتركة وألا يظن الجنوبيون بأنهم خرجوا منتصرين في هذه التسوية ويمارسوا الاضطهاد ضد العرب الذين لن يرضوا بأن يكون مواطنين من الدرجة الثانية.

إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"

العدد 2514 - الجمعة 24 يوليو 2009م الموافق 01 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:00 ص

      حديث العارف

      الاخ العزيز عزوز مقدم ..تحياتي لك وتقديري..
      قرأت المقال حقيقة فيه معلومات قيمة وأصدقك القول فيما تفضلت به لكن الخطأ لم يكن المحكمة بل هو خطأ الحكومة السودانية التي ذهبت بالقضية إلى التحكيم الدولي في قضية كان بالامكان حلها داخلياً وبكل سهولة.
      والمحكمة لم تأتي بشيء من عندها وجاء الحكم من الحيثيات الموجودة لدى المحكمة من تقرير الخبراء والمرافعات التي قدمها الطرفان.
      بما انك من سكان المنطقة وتلم إلمام واسع بالقضية أرجو أن تكتب مجموعة حلقات حول هذه القضية التي شغلت الناس.
      خالد ابواحمد

اقرأ ايضاً