العدد 2589 - الأربعاء 07 أكتوبر 2009م الموافق 18 شوال 1430هـ

البرازيل... دولة كبرى

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اختيار البرازيل لتستضيف دورة الألعاب الأولمبية في العام 2016 أعطى إشارة اعتراف بوجود قوة إقليمية صاعدة يرجح أن تلعب دورا مركزيا في تعديل توازن منظومة العلاقات الدولية. فالاختيار جاء بعد تنافس خاضته الولايات المتحدة واليابان وإسبانيا ضد البرازيل وانتهى الأمر بتكليف مدينة ريو دي جانيرو أن تقوم بمهمة تنظيم الدورة.

القرار رياضي في طابعه العام إلا أنه يدل على قناعة سياسية بوجود قوى اقتصادية جديدة بدأت تفرض حضورها على المعادلات الدولية ولم يعد بالإمكان تجاهلها والتعامل معها بصفتها دولة فقيرة وبسيطة تعيش على هامش القوى العظمى.

البرازيل انتزعت حق تنظيم الدورة عن جدارة اقتصادية بدأت تعترف بقوتها كل المؤسسات الدولية والمستقلة. فهذه الدولة قبل عشرين سنة كانت تصنف فاشلة بسبب الديون التي ألقت بثقلها على قطاعات الإنتاج وأدت إلى تهالك الاقتصاد وانهيار النقد وارتفاع معدل التخضم والبطالة.

الآن أصبحت البرازيل تحتل الموقع الثامن في تصنيف مراتب الدول الكبرى بعد أن رفعت ناتجها المحلي إلى 1665 مليار دولار في العام 2008، وحققت احتياطات نقدية بلغت نحو 800 مليار دولار، ورفعت معدل نمو الإنتاج الصناعي 4.4 في المئة، وتقدم دخل الفرد فيها إلى نحو 12 ألف دولار سنويا.

هذا التقدم وضع البرازيل في مصاف الدول الكبرى. فهي تمتلك قوة عاملة تتجاوز 100 مليون (عدد السكان يتجاوز 200 مليون نسمة) ما أعطاها فرصة لتلعب دورا في التجارة الدولية إذ بلغ حجم صادراتها في العام 2008 أكثر من 200 مليار دولار ووارداتها نحو 177 مليارا.

الاختيار الرياضي جاء بناء على تقديرات اقتصادية تعطي البرازيل تلك المؤهلات البشرية والتنموية والتقنية والفنية والنقدية المطلوبة للإشراف على تنظيم دورة مكلفة في تأمين حاجات البنية التحتية وتلبية كل الوسائل لضمان نجاحها.

البرازيل لم تعد دولة محسوبة على الفقراء كما سارعت بعض التحليلات في القول والاستنتاج. فهذه الدولة تسيطر على نصف قارة أميركا اللاتينية (الجنوبية) تقريبا وتعتبر خامس دولة في العالم مساحة (أكثر من 8.5 ملايين كيلومتر مربع) وينبع أو يصب فيها أكثر من ألف نهر بينها الأمازون (ثاني أطول نهر في العالم والأول في غزارة المياه).

كل هذه العناصر الطبيعية والجغرافية والبشرية المعطوفة على خصوبة الأرض (غابات استوائية، ثروة حيوانية وزراعية) وثروات معدنية ونفطية أعطت هذه الدولة أفضلية ترجيحية لتنظيم دورة الألعاب الأولمبية في العام 2016. فالبرازيل يرجح إذا استمرت في معدل نموها السنوي الحالي (4 في المئة) أن تصبح من الدول العظمى في ذاك الوقت. وهناك توقعات وضعها مصرف «غولدمان ساكس» تشير إلى أن اقتصاد هذه الدولة سيكون الرابع في العام 2050، وستتقدم رويدا من دون صراخ وضجيج وتبجح على اقتصادات أميركا واليابان وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وستبدأ بمنافسة الصين والهند وروسيا على المركز الأول. فالبرازيل دولة صاعدة وواعدة وستكون في النصف الثاني من القرن الجاري في مصاف الدول الأربع الأول إلى جانب الصين والهند وروسيا.

الاختيار إذا لم يكن صدقة دولية أو ردة فعل ناتجة عن نكاية أو عبث في التصورات والتوهمات. الاختيار جاء بعد قراءة أخذت تلاحظ وجود متغيرات في موازين الاقتصاد الدولي ونمو قوى إقليمية كبرى أخذت تشق طريقها من الأطراف إلى المركز لتصعد من الجنوب إلى الشمال وتبدأ بمنافسة دول عريقة في الصناعة وتزاحمها على هامش التجارة الدولية.


صعود القطب الجنوبي

البرازيل الآن التي تقدمت أربع خطوات وانتقلت في أقل من ثماني سنوات من مرتبة الدولة الثانية عشرة إلى الموقع الثامن بدأت تساهم في صوغ وجهات نظر لتذليل العقبات التي هزت العالم بعد أزمة النقد. فهي أصبحت من «مجموعة العشرين» وأخذت تتقدم باقتراحات لتعديل أنظمة عمل المؤسسات المالية الدولية وإصلاح وظيفة صندوق النقد الدولي وباتت تطالب بتوسيع قمة الدول الصناعية الثماني بصفتها لم تعد قوى صالحة للقيام وحدها بوظيفة الإشراف على اقتصادات العالم كما كان حالها قبل 25 سنة.

العالم أخذ يتغير. والتعديل الذي بدأ في ستينات القرن الماضي واتجه من الغرب إلى الشرق وشهد في تلك الفترة نمو اليابان وصولا إلى احتلالها الموقع الثاني قبل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا في الثمانينات، بدأ يشهد الآن طفرة اقتصادية جديدة لا تقتصر على الصين والهند في آسيا وإنما على البرازيل في أميركا اللاتينية.

صعود البرازيل الاقتصادي من الجنوب إلى الشمال يقارب في قوانينه ودلالاته وإشاراته ورموزه ذاك النمو الذي شهدته دول آسيا وأدى في مجموعه إلى صعود الشرق مجددا باتجاه منافسة الغرب. وأهمية البرازيل في هذا المعنى التاريخي أنها دولة تقع جغرافيا في جنوب الكرة الأرضية وليس في وسطها أو شرقها ما يعطي صعودها رمزية ثقافية تكسر الكثير من الطقوس الأيديولوجية والمقدسات الدينية (دولة كاثوليكية وليست بروتستانتية كما هو حال معظم دول الشمال). ونمو دولة مركزية كبرى في هذه المساحة الجغرافية وبمثل هذه الكثافة السكانية وفي هذا الموقع (الجنوب) سيؤدي بدءا من العقد المقبل إلى كسر الكثير من الحواجز النمطية ما يفتح الباب إلى إعادة النظر بتلك التقسيمات الاقتصادية التي شطرت البشرية إلى شرق وغرب والكرة الأرضية إلى شمال (غني) وجنوب (فقير).

البرازيل ليست دولة فقيرة كما حاولت التحليلات المتسرعة تصنيفها بعد اختيارها لتستضيف الدورة الأولمبية. فهي لاشك تعاني من مشكلات اجتماعية وفوضى (جرائم وانفلات الأمن) وبعض الخلل في تفاوت النمو بين أقاليمها ومدنها وأطرافها بسبب تلك الهوة التي تفصل التقدم الاقتصادي السريع عن توزيع الثروة بشكل عادل في المقاطعات والأحياء. الثغرات هذه عادية وتحصل عادة في البلدان التي تحقق نسبة نجاح سريع في تطوير الاقتصاد والبنى التحتية من دون أن توازن في تعديل نمو المداخيل الفردية للفئات الكادحة والمحرومة والهامشية.

الثغرات الموروثة هذه بدأت تتقلص نسبيا في عهد الرئيس لولا (زعيم نقابي ويساري سابق) من دون إثارة الذعر وإطلاق تصريحات أيديولوجية فارغة وشعارات فضفاضة. فالرئيس لولا (لويس ايناسيو داسيلفا) أدرك قواعد اللعبة الدولية باكرا واعتمد سياسة براغماتية تأسست على تعاملات واقعية مع المتغيرات التي بدأ يشهدها العالم في مطلع القرن الجاري. وبسبب اكتشاف لولا قوانين اللعبة استطاع أن يؤسس قراءة تتناسب مع التعديلات التي طرأت على موازين الثقل الاقتصادي في العالم وتتكيف مع انتقال منظومة العلاقات الدولية من الأحادية (الانفراد بالقرار) إلى التنوع وتعدد الأقطاب.

البرازيل الآن أصبحت من تلك الأطراف الكبرى من دون ادعاءات لفظية ولا تهديدات أو استفزازات أو طموحات أيديولوجية فارغة لا تأخذ المساحة والحجم والكثافة والقدرات في الاعتبار. فهذه الدولة الكبرى الصاعدة والواعدة لم تطالب يوما أن تعطى موقعا أو دورا أو وظيفة إقليمية لتلعب دور الوكيل الدولي للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية. البرازيل دولة متواضعة ومسالمة وتحترم مصالح غيرها وربما لهذه النقاط البسيطة نجحت في تطوير اقتصادها من دون تخويف لدول الجوار ما أعطاها فرصة تاريخية لتنهض في دائرة سياسية شهدت خلال القرن الماضي عشرات الانقلابات العسكرية والاغتيالات والتبعية الدائمة (حديقة خلفية) للولايات المتحدة.

اختيار البرازيل لتنظيم الدورة الرياضية يشكل ذاك الحدث السياسي المنتظر لدولة إقليمية كبرى سيكون لها موقعها المميز في الاقتصاد العالمي الذي أخذ يتغير من الغرب إلى الشرق وربما من الشمال إلى الجنوب.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2589 - الأربعاء 07 أكتوبر 2009م الموافق 18 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً