الحشد الذي شهدته ساحة الحرية في بيروت بمناسبة الذكرى الخامسة لاغتيال رفيق الحريري أعاد طرح مسألة الاستقطاب السياسي اللبناني على بساط النقاش. فالتجمع الذي دعت إليه حركة «14 آذار» في 14 فبراير/ شباط شكل مناسبة لقراءة الخطاب المتنوع في إشاراته ورموزه ودلالاته بين القوى التي تقود الشارع. فالخطاب ليس موحدا وغير متطابق في منهجيته وأهدافه، كذلك لم يكن منسجما في توجهاته الكبيرة سواء على مستوى الداخل أو على مستوى التعامل اللبناني مع المحيط والخارج.

التنوع في «14 آذار» ليس جديدا. فهذه الحركة ليست حزبا أو طائفة واحدة وهي تشكلت في لحظة زمنية بدأت ردة فعل على جريمة الاغتيال وتطورت إلى حالة شعبية تقاطعت في ظلها مجموعة مصالح التقت على حد أدنى من النقاط المشتركة. وتحت مظلة المشترك العام تولدت خصوصيات حافظت خلالها كل طائفة على همومها وهواجسها ومخاوفها من دون أن تربك اللقاء الوطني في تموجاته العريضة.

«14 آذار» ليست حزبا ولن تتحول إلى حزب. وهي لن تنجح في صوغ إستراتيجية واحدة وصارمة في توافقها على برنامج مبدئي تترابط حلقاته في سلسلة محكومة بخطة عمل واضحة في خطواتها وسياقاتها.

طبيعة «14 آذار» طائفية في تكوينها السياسي فهي أقرب إلى تجمع لقاء طوائف ومذاهب ومناطق وقوى مستقلة تشكل في حقبة زمنية فرضت شروطها المحلية والإقليمية على برنامجه المرحلي من دون أن يتطور إلى إستراتيجية متكاملة ومتطابقة.

فالطبيعة التأسيسية للحركة لعبت دورها في تكوين خطابات سياسية متقاربة ولكنها ليست متجانسة، باعتبار أن المنابت الاجتماعية والمصادر الإيديولوجية لعناصرها وروافدها جاءت أصلا من اتجاهات وتوجهات متخالفة في منظوماتها وقراءاتها وتطلعاتها.

هذا التنوع في منطلقاته ومنابعه، ربما يكون السبب الأقوى الذي ساعد «14 آذار» على البقاء وعدم التلاشي أو الاضمحلال بفعل التطور الزمني أو اختلاف الظروف وتحول الفضاءات الدولية والإقليمية. فالتنوع أعطى حيوية سياسية قادرة على تخصيب القدرة على التوالد أو النمو أو على الأقل حفظ عناصر البقاء. والتنوع في حركة لقاء طوائف ساهم في إعطاء صفة الديمومة على رغم حصول انقسامات أو تراجعات أو انسحابات من تحت مظلة «14 آذار».

التنوع الذي تتميز به قوى «14 آذار» يشبه الفولكور اللبناني في اختلاطه الطائفي والمذهبي وتعدد هوياته الذاتية ضمن كيان يفتقد إلى دولة قادرة على توحيده في كتلة مبرمجة في الحياة والمصير. وبهذا المعنى تختلف «14 آذار» عن «8 آذار». فالأخيرة تتميز بالانضباط في خيمة سياسية كبيرة تتحرك تحت قيادة واضحة في توجهاتها الإستراتيجية وبرنامجها الصارم في حلقاته المنتظمة تحت راية واحدة. والأولى تتميز بالفوضى السلمية (المدنية) في إطار مجموعة خيم متجاورة سياسيا في إطار عريض ومنبسط جغرافيا يصعب توحيده تحت خيمة واحدة وبرنامج صارم في انضباط حلقاته وتوجهاته.

المفارقة بين الكتلتين توضح اختلاف الخطب السياسية في «14 آذار» وتوحد «8 آذار» تحت خطاب خيمة سياسية واحدة. والاختلاف بين الهيئتين في لبنان يشبه كثيرا ذاك الاختلاف بين التيارات التي تتشكل منها حركة الاعتراض في إيران. قوى الاعتراض في إيران متباينة في روافدها ومنابتها ويصعب توحيدها في برنامج سياسي صارم في توجهاته وتطلعاته الإستراتيجية، ولكن من الممكن ضبط اجتماعها الظرفي في مجموعة نقاط تقلق «الشرائح العسكرية الطفيلية» التي تتحكم بمفاصل الدولة ومصادر الثروة.

لقاء «14 آذار» لبناني في تكوينه. ولأنه لبناني تشكل موضعيا من طوائف ومذاهب ومناطق توالي أحزابها التقليدية التي تأسست منذ عقود أو أعلن عنها في لحظات زمنية متفارقة ولكنها في النهاية متوافقة على حد أدنى يتغير ويتكيف ويتحرك بحسب حرارة أو برودة المتحولات المجاورة وما تبعثه من فضاءات دولية وإقليمية تتقاطع أحيانا وتتنابذ أحيانا. وهذا النوع من التنوع والتلون كان بالإمكان قراءة خطوطه السياسية العريضة في ذلك الحشد الذي دعت إليه «14 آذار» في ساحة الحرية في بيروت من دون كلفة أو عناء. فالعناوين واضحة وهي تؤشر إلى استحالة توحيد الطوائف المتنوعة في خيمة واحدة وخطاب واحد وإستراتيجية منضبطة تقوم على برنامج صارم في القراءة أو الرؤية.