العدد 2764 - الأربعاء 31 مارس 2010م الموافق 15 ربيع الثاني 1431هـ

الاستعارة تصنع تصوراتنا وتبني سلوكياتنا اليومية

لا يكوف وجونسون في كتاب: «الاستعارات التي نحيا بها»

بدأت حكايتي مع هذا الكتاب حينما تتبعته مرجعا في أكثر من بحث ودراسة، فخالجني شعور أن هذا العنوان يختزن الكثير وراءه، بما ينعش الذات ويجدد أدواتها، فرحت أستقصي أثره في المكتبات البحرينية بين أروقة الكتب وفي حواسيبهم فلم أجد له من أثر ورحت ألتمسه عند بعض الأصدقاء فطال الأمد وبَعُد الوعدُ والوفاء به، حتى جاءني الشاعر علي الشرقاوي في صباح يوم جميل فصار الصباح به أجمل، حينها فرحت به أيما فرح وطفقت أطوي به اللحظات والساعات حتى أتيت على الكثير منه مرة مستمتعا بجدته واقتناصاته الطريفة ومرة مراجعا الكثير من الاستعارات التي بها نحيا ونحن لا ندري ناقلا إدراكها من مستوى اللاوعي إلى مستوى الوعي.

كتاب الاستعارات التي بها نحيا، ألفه جورج لايكوف ومارك جنسون ونقله للعربية الدكتور عبد المجيد جحفة في لغة بينة وواضحة حتى أنك لتحس أنه حين ارتحل من لغته إلى اللغة العربية لم يفارق استساغته وطرافة معناه وعذوبته وجاء الكتاب في مجموعة من الفصول تنتظم في ثلاثين فصلا، الفصل الأول تعنون بـ «هذه التصورات التي بها نحيا»، حاول فيه المؤلفان أن يبينا أن الاستعارة لا ترتبط فقط بالخيال الشعري والزخرف البلاغي بل إنها تتعلق حتى بالاستعمالات العادية وأكدا على أن الاستعارة ليست خاصية لغوية للألفاظ فقط بل هي مسألة تتصل بالتفكير بل بكل مجالات حياتنا اليومية، بل إن النسق التصوري اليومي الذي يسير أمورنا لا ينفك من الطبيعة الاستعارية.

وقد لجأ المؤلفان لأمثلة من حديث الناس اليومي وذلك حينما يتجادلون واكتشفا أن الجدال مرتبط في تصورات الناس بالاستعارة الحربية الجدال حرب « وذلك من خلال الأمثلة التالية:

الجدال حرب:

• لا يمكن أن تدافع عن ادعاءاتك.

• لقد هاجم كل نقط القوة في استدلالي.

• أصابت انتقاداته الهدف.

• لقد هدم حجته.

• لم انتصر عليه يوما في جدال

• إذا اتخذت هذه الاستراتيجية ستباد

• إنه يسقط في جميع براهيني.

وأكد الكتاب على أن الناس لا يرون أنهم يستخدمون استعارات الجدال فقط بل يحسون أنهم فعلا منتصرون أو منهزمون فالشخص الذي يجادلونه يعتبر غريما يتم مهاجمة مواقفه والدفاع عن أنفسنا ونحن أمامه إما خاسرون أو رابحون نضع استراتيجيات ونشَغّلها، إنها معركة كلامية هجوم دفاع انقضاض هجوم مضاد …. إلى آخره. ويضرب الكتاب مثالا آخر متخيلا لتوضيح أثر الاستعارة على نسقنا التصوري فماذا لو تصورنا أن ثقافة ما تستخدم الرقص استعارة للجدال حينها لن يكون هناك هجوم ودفاع بل ستكون هناك البراعة والأناقة وإلى آخره وستكون ألفاظنا في الجدال ألفاظ المعركة وألفاظهم في الجدال ألفاظ الرقص.

وفي الفصل الثاني عالج الكاتب نسقية التصورات الاستعارية وأثرها على بناء سلوكنا اليومي فكما أن استعارة الجدال حرب كانت تؤثر على طريقة كلامنا وأسلوب تعاملنا مع المجادل فكذلك الاستعارة التي نستخدمها للوقت فهي استعارة مالية «الوقت مال» وحلل المؤلفان مجموعة من استخداماتنا اليومية في التعبير عن الوقت للدلالة على استعارة الزمن مال:

• إنك تجعلني أضيع وقتي.

• هذه العملية ستجعلك تربح ساعات وساعات.

• ليس لدي وقت أمنحك إياه.

• كيف تدبر رصيدك الزمني.

• كلفني إصلاح هذه العجلة ساعة كاملة.

• لقد أخذ مني وقتا كبيرا.

• ليس لدي وقت أخسره.

وبهذه الأمثلة يؤكد الكاتبان على أن الزمن في ثقافتنا عبارة عن بضاعة ذات قيمة فهو مورد محدد من حيث الكمية نستعمله لتحقيق مآربنا والزمن محسوب بدقة ولهذا يتساءل الكتاب كيف نفسر أنه أصبح من المألوف أداء الأجور في ثقافتنا من خلال الساعة أو الأسبوع أو الشهر أو السنة ويتجلى هذا التصور الاستعاري في أن الزمن مال في التسعيرات التلفونية وأجور الساعات وتسديد الدين وهكذا تبني هذه الاستعارة سلوكنا نحو الزمن فنحن نستهلكه أو نصرفه ونستثمره أو نوفره أو نضيعه ونهدره.

وفي الفصل الثالث عالج الكاتبان مسألة النسقية الاستعارية بين الإظهار والإخفاء إذ أن النسقية التي تسمح لنا بالقبض على مظهر من مظاهر تصور ما عن طريق تصور آخر ستخفي مظاهر أخرى ففي استعارة الجدال ستظهر المظاهر الحربية وستختفي المظاهر الأخرى منها التعاون للوصول للتوافق أوالتلاؤم ومحاولة الطرف الآخر إجهاد نفسه في توصيل رأيه والتبرع بالوقت الذي يعد بضاعة ثمينة من قبلنا أو من قبله إلا أننا حين نجهد أنفسنا بالمظاهر العدوانية للجدال لا ننتبه إلى هذه المظاهر.

ويستشهد الكتاب بما سماه مايكل رريديري استعارة المجرى فبحسب هذه الاستعارة الأفكار أو المعاني أشياء والتعابير اللغوية أوعية والتواصل إرسال وذلك من خلال الأمثلة التالية:

• من الصعب أن نجعل الأفكار تصل إليه.

• أن الذي أعطيتك هذه الفكرة.

• حججك تعبر إلينا مباشرة.

• يصعب علي وضع أفكاري في كلمات.

• حاول القبض على الفكرة الجيدة بوضعها في كلمات.

• المعنى المراد يندس في الكلمات.

• كلماته تحمل معاني غير موحية.

فهذه الاستعارة أي استعارة المجرى تخفي وراءها الكثير من مسائل عملية التواصل فهي تقتضي أن يكون للألفاظ دلالة في نفسها بعيدة عن المتكلم أو المتلقي أو الوضع الذي قيلت فيه، وكأن ثمة أمور مسلم بها منها أن الكلمات تعكس الحقيقة، ولإظهار ذلك يمكننا النظر في الاقتضاءات التي تستجلبها الاستعارة أو توسعها أو تضيقها بالخروج من طريقة التفكير الحرفية، فإذا كانت الأفكار أوعية أو أشياء فبالمجاز والخيال الشعريين يمكننا أن نتصور أننا نلبس الأفكار ألوانا زاهية نلاعبها نرتبها بشكل أجمل ننسقها نزينها.

وهكذا يعالج الكتاب في بقية فصوله الكثير من الافتراضات التي فتحتها هذه الفكرة فكرة الاستعارات التي نحيا بها مستعينا في كل فصل بحزمة من الأمثلة التي تدلل على ما ذهب إليه من معاني طريفة جميلة.

وأود ان أختم هذا العرض بما ذُيّل به الكتاب في خاتمته من إشارات إلى مبحثه وافتراضاته المركزية حيث يبحث هذا الكتاب في الكيفية التي يفهم بها الإنسان لغته وتجربته والعلائق الرابطة بينهما، أي كيف تفعل التجربة في اللغة وكيف تفعل اللغة في التجربة. وقد تم انتقاء آليات اشتغال التعابير الاستعارية لقياس هذا التفاعل ورصد بعض أجزائه.

إن جزءا مهما من تجاربنا وسلوكاتنا وانفعالاتنا استعاري من حيث طبيعته. وإذا كان الأمر كذلك، فإن نسقنا التصوري يكون مبنيا جزئيا بواسطة الاستعارة. وبهذا لن تكون الاستعارات تعابير مشتقة من «حقائق» أصلية، بل تكون هي نفسها عبارة عن «حقائق» بصدد الفكر البشري والنسق التصوري البشري.

العدد 2764 - الأربعاء 31 مارس 2010م الموافق 15 ربيع الثاني 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً