العدد 2795 - السبت 01 مايو 2010م الموافق 16 جمادى الأولى 1431هـ

محمد البنكي... هل سيدهشنا من يكتب المألوف؟

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

منتصف الثمانينيات، استضافت جامعة البحرين كلا من محمد عابد الجابري (المغرب) وحسن الترابي (السودان) في ندوة بأحد مدرجاتها. وكان الجابري والترابي يشاركان وقتذاك في دورة من دورات منتدى الفكر العربي عقدت بالبحرين.

كان المحاضران تسبقهما شهرتهما، الجابري وأطروحاته في نقد العقل العربي، والترابي وسجالاته الطويلة في السياسة السودانية، لكن حتى قبل قليل من نهاية المحاضرة، تحولت الأنظار عن الضيفين لتتركز على شاب بوجه متناسق القسمات تكلله لحية خفيفة مشذبة بعناية، كان يجلس بينهما ويدير الحوار. فلقد كنا على وشك دهشة تكسر العادي والمألوف. لقد أذهل ذلك الشاب الحضور عندما لخص أطروحات الجابري والترابي بمهارة ودقة وفصاحة دونما تأتأة أو خطأ وبشكل دفعني (ومن المؤكد أنه دفع غيري أيضاً) لكي ألتفت جانباً وأسأل: من هذا الشاب الذي يدير الندوة؟ قيل لي: «محمد البنكي».

بعد قليل، جاء جواب آخر من والدتي: محمد... ولد أحمد البنكي. مذاك، لن يتوقف محمد البنكي عن شد الانتباه عندما ألفيتنا نعمل في مكان واحد... سبقني للعمل في صحيفة «الأيام» محرراً في الصفحة الثقافية، لتعرف الصحافة المحلية على يده ويد جيل جديد من المثقفين الشباب، أطروحات جديدة وأفقاً جديداً على الثقافة العالمية.

كان مسكوناً بقلق وهواجس جيل جديد من المثقفين البحرينيين، فالراحل كان واحداً من موجة جديدة في الثقافة البحرينية كنت أطلق عليهم «الموجة الثالثة». فإذا كانت ستينيات القرن الماضي قد أنجبت لدينا شعراء، فإن السبعينيات من ذلك القرن أنجبت كتاب قصة. أما التسعينيات فقد أنجبت نقاداً، وكان البنكي أحد هؤلاء النقاد الجدد المبرزين جنباً إلى جنب مع نادر كاظم وسواهم ممن درسوا في جامعة البحرين في حقبة ذهبية لكلية الآداب على يد أساتذة مبرزين.

العمل محرراً في الصفحة الثقافية لأية صحيفة لا يعطي صاحبه أفضلية من أي نوع، لكن وحده الجهد والمبادرة والقدرة على إثارة النقاشات والجدل وفتح الآفاق والحفر بالأسئلة حول المحرمات والمقدسات والأوهام الرائجة. هكذا، قدم البنكي إسهامات كبيرة للثقافة البحرينية بتسليطه الضوء على جيل جديد من الشعراء وكتاب القصة الشباب في البحرين. ومن خلال ذلك الجهد الدؤوب، عرفنا العديد من الأسماء واكتشفنا أن جيلا جديداً من المبدعين يشق طريقه وسط اجتهادات وإرهاصات ثقافية طويلة تختمر وتتفاعل.

كان قد بادر إلى إصدار ملحق خاص بالأدباء الشباب وكان الملحق يمر تحت يدي للمراجعة. كنت أقرأ بشيء من الذهول كل هذا الجهد الذي كان يوليه لا لتقديم التجارب الجديدة فحسب، بل إدارة حوارات معمقة ورصينة مع التجارب الجديدة محاوراً أصحابها بروح نقدية عالية ما يفصح عن ثقافة موسوعية وقلق نقدي وهواجس مثقف يسعى لتحريك الساكن لا التعايش معه. كان لا يكف عن إلقاء أحجار الأسئلة في البرك الساكنة، فالحركة لم تكن مجرد أفق بل ضرورة تقرب من الحتمية.

الإضاءات التي سلطها البنكي على هذه التجارب، أكبر جهد توثيقي ونقدي (لربما حتى اليوم) في تقديم هذا الجيل الجديد. لكنه مثل غيره من الجهد النوعي، لم يلق حقه من العناية ولا الاهتمام، فالجهد النوعي في صحافتنا يضيع وسط ضجيج الدعاية وابتذالاتها وغياب القدرة على فهم معنى الإنجاز في أي ميدان لدى القائمين عليها.

وسيكون هذا الجهد قاصراً إن لم نلتفت إلى تلك اللغة الجبارة والرشيقة التي كانت تميز البنكي ومفرداته التي كان يشتقها بسلاسة مذهلة. يشترك في هذا معه رفاقه من الأدباء والنقاد الشباب، فهل سيدهشنا من يكتب بلغة مألوفة؟ فيما خص محمد البنكي الذي أكتب عنه، أصبحت تلك المشتقات مثل كلمات السر بيننا... «الاندياحات» و»استكناه النص» وغيرها. واستعار مني مفردة «الغلمان» بل ودبجها في مقالة نقدية له عن مسرحية «القربان» مستفتحاً قراءه كعادته بحجر يلقيه في سكون التلقي: «هل شاهدت («غلمان») السعداوي في مسرحيتهم الأخيرة؟» هكذا، أصبح كل فعل في أحاديثنا فيما بعد «اندياحاً» وكل محاولة للفهم حتى على سبيل الهذر أصبحت «استكناهاً». وإذ كنا نحمل الاسم نفسه، فقد أصبح لدينا كلمة سر أخرى: «السمي».

انتقل «السمي» إلى جامعة البحرين، مديراً للعلاقات العامة والإعلام، ومعيداً بعد نيله درجة الماجستير ومن هناك إلى رئاسة تحرير صحيفة «الوطن»، لكن ليس قبل أن يترك بعض البصمات في الجامعة: مجلة أدبية رصينة اسمها «أوان» ومساهمات على مستوى الإدارة في المجلات التي بدأت الجامعة تصدرها بجهود مثقفين بحرينيين بارزين. لكن لهذا الجهد وجه آخر غائب أيضاً، هو موسم ثقافي امتد عاماً كاملاً كان يقوم على استضافة مختصين في ميادين عدة من خارج الجامعة. المسمى والتعريف والغاية لربما ليس جديداً، فلقد قيل عن ذلك البرنامج بأنه تفعيل لعلاقة الجامعة بالمجتمع، لكن للبنكي يحسب فضل المبادرة وتفعيل هذا البرنامج.

إنني أتحدث عن مثقف كان على الدوام مسكوناً بالفعل والمبادرة متجاوزاً التذمر والشكوى، على هذا رحت أتابع ذلك التحدي الذي اختاره عندما تولى رئاسة تحرير «الوطن». كان تحدياً مثلما أسر لي غير مرة، وبقيت أنتظر «اندياحات» البنكي في الطور الجديد لمثقف وناقد يتولى رئاسة تحرير صحيفة يومية، لكن في أزمنة جديدة.

لقد مرت السنوات، وأولئك الأصدقاء الشباب من طلاب الجامعة الذين دشنوا فضاءً جديداً في الثقافة البحرينية، باتوا على أطراف حراك سياسي بدأت تعيشه البحرين منذ العام 2001. حراك دفع بالثقافة إلى الخلف قليلاً ومهرها بذلك الطابع الذي يجعل الخلاف في الرأي أقرب للانقسام. في هذه الأجواء، كان البنكي ورغم السنوات المعدودة له في الصحيفة قد ترك بصماته على الأخص في ميدان لعبته الأثيرة: الثقافة، وأضاف إلى التحقيقات شيئاً من رصانة الأولى وعمقها. وإن طرح رأيه في مقال، فليس أمامك سوى احترامه أياً كانت درجة خلافك معه، فالبنكي كان واحداً ممن يعرفون قيمة مهملة جداً لدينا ونادرة اسمها «الخصومة الشريفة».

إننا نكتب دوماً عن من يؤثرون فينا بعمق، البنكي كان أحدهم ومرارة رحيله المبكر مضاعفة بالنسبة لي على أكثر من وجه. فهو ابن الفريج والصديق الوفي... إنه «السمي» الذي عرفته شاباً جامعياً يغمره الطموح، ومحرراً ثقافياً يحرك الساكن ويفتح الآفاق ويثير الجدالات وينثر الأسئلة، وقلما من طراز نادر يشدك لقراءة ما يسطره. ورئيساً للتحرير ومسئولاً إعلامياً لم يخبُ طموحه ولا حركته حتى أيامه الأخيرة.

الصديق الذي لم يتوان لحظة عن مد يد العون بكل شهامة لي ولآخرين كثر... أرثيه مثقفاً طليعياً وصديقاً مخلصاً ووفياً... ألم مضاعف عندما لم أتلق جواباً على رسالتي النصية القصيرة: «السمي... اشلونك... إن شاء الله بخير... كم يوم ما سمعت صوتك... طمني عليك»

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 2795 - السبت 01 مايو 2010م الموافق 16 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:33 ص

      رحمك الله ايها الغالي

      لقد عرفت الفقيد في المرحلة الثانوية فقد كان شابا ذكيا منفتحا على الحمبع لم يعرف الطائفية لان من يحمل فكرا وثقافة حضارية لايمكن ان يكون طائفيا
      لقد رحل عنا في ريعان الشباب وهذه ارادة الباري نسال الله له الرحمة والمغفرة
      ديراوي

    • زائر 1 | 2:27 ص

      رحمه الله

      رحم الله الاستاذ محمد البنكي بواسع رحمته كم هو مؤلم ان تفقد البحرين طاقات شبابية .

اقرأ ايضاً