العدد 2835 - الخميس 10 يونيو 2010م الموافق 27 جمادى الآخرة 1431هـ

الجغرافيا ودورها في تطور تاريخ القارة

نشوء النخبة الأوروبية (17)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اندفاع النخبة الأوروبية في تصوراتها المتوازية والمتعارضة من محطة اعتبار الأرض مركز الكون إلى الشمس إلى الإنسان مركز الكون توافق مع التطور التقني - العلمي الذي عزز التفاؤل بشأن التقدم وأعطى دفعة خصبة للمخيلة حين انتقلت من التفكير بمعالم «المدينة الفاضلة» إلى التنظير لعلاقات «المجتمع الفاضل». وأدى هذا الوعي إلى تطور وظيفة الفلسفة من حقبة التفسير إلى حقبة التنظيم (الإصلاح العقلاني) انتهاءً بظهور ملامح تبشر بالتغيير الشامل.

كل هذه المنعطفات المتخيلة تأسست على وقائع ميدانية وحقائق ملموسة ولم تتمظهر فكرياً قبل أن تتشكل تلك الإشارات والعينات على أرض الواقع وتحديداً بعد أن نجحت السفينة في نقل أوروبا إلى العالم وعودة العالم إلى أوروبا.

بدء العصر الحديث إذاً أخذ يتكون منذ القرن الخامس عشر. وهذه الواقعة التاريخية يتوافق على توقيتها كل الفلاسفة الذين اهتموا بتدوين التاريخ وقراءة الزمن في سياقاته التراكمية والتطورية.

«محاضرات في تاريخ الفلسفة» وهي نصوص (رؤوس أقلام) ألقاها هيغل على فترات متقطعة في جامعة هيدلبرغ في العام 1816، وجامعة برلين العام 1820، إلى مداخلات مختلفة ألقيت على الطلبة بين 1823 و1830 شرح فيها تطور الفلسفة وتعدد أنساقها ومنظوماتها. فالفلسفة برأيه نتاج عصرها وهي تتعدل زمنياً بسبب المتغيرات بين حقبة وأخرى. وبما أن الفلسفة برأيه علم الأفكار فهي تتشكل من سلسلة حلقات تاريخية تربط الماضي بالحاضر ما يعني أنها متنوعة ومختلفة. والتنوع لا يلغي وحدة الحقيقة (وحدة الفكر) وإنما يعطيها ذلك الغنى وتلك الحيوية (الحركة والتطور). فالحقيقة واحدة وهي تتشكل تاريخياً وفق نسق تطوري يعكس تعاقب تقدم الفكرة في إطار المطلق (الروح الكونية).

ضمن هذا السياق التاريخي - التطوري يؤكد هيغل في محاضراته الفلسفية أن التقدم ظهر في أوقات متخالفة ومتباعدة و«ظهر العلم والفلسفة الحديثان في الحياة الأوروبية، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر حينما تقوضت الحياة الوسيطة التي كانت قد تعايشت فيها الديانة المسيحية، الحياة السياسية، الحياة البورجوازية، والحياة الخاصة، تعايشاً متماهياً» (ص 43).

لذلك برأي هيغل أن لكل فلسفة عصرها، والفلسفة المعاصرة «في جوهرها حصيلة أعمال سابقة» (ص 67). وأن «عصر نهضة العلوم، العصر الحديث في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم يبدأ فقط بدراسة الفلسفات القديمة، بل بدأ أيضاً من الرغبة في تجديدها وإنهاضها». (ص 69). ويستنتج هيغل أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفكر لأن الفلسفة، لكونها تشتمل على الدين والفن وتشكيل الدولة، ليست سوى الفكر في حركة متصاعدة (ص 76). واختلاف المنظومات الفلسفية برأي هيغل ناتج عن التطور (الحركة). فالتطور المطلق هو في مسار واحد وحركة واحدة، بينما التطور العيني فهو يتحرك في سلسلة من التشكيلات المتعاقبة (جدلية التنوع) ما يؤدي إلى اختلاف الأنساق والمدارس. وبما أن التطور درجات فإن كل درجة من التطور تكون أغنى لأن الفكر يشتمل في النتيجة على مختلف اللحظات (الزمنية) باعتبار أنه «ليس هناك أي فكر لا يتقدم في تطوره» (ص 101).

هكذا يصل هيغل إلى التأكيد على أن الفلسفة «كما هي، فلسفة اليوم، الأخيرة، تشتمل على كل ما أنتجه عمل ألوف السنين؛ إنها نتيجة كل ما سبقها». (ص 105). لذلك «جرى في القرن الخامس عشر، كما في القرن السادس عشر، الرجوع إلى الفلسفات القديمة؛ الأمر الذي كان ضرورياً في مجرى الحضارة المسيحية». (ص109). برأي هيغل أن هناك مسيرة تدرجية للعقل، فالفكر يبدأ بالفقر ويأتيه الغنى لاحقاً. (ص 123). وهذا يعني حق التجاوز كما يقتضي المنهج التاريخي (مخطط التحقيب) لأن عصرنا غير عصر أفلاطون وأرسطو، لذلك «كان من الضروري في أثناء نهضة العلوم، التعرف إلى أفلاطون والأفلاطونيين الجدد؛ لكننا لا نستطيع التوقف عند تلك الفلسفات». (ص 127). في اليونان بدأ «عالم الحرية» (ص 200) و«لهذا السبب بدأت الفلسفة هناك» (ص 201) وانتقلت إلى الجرمان. هناك مرحلتان كبيرتان: يونانية وجرمانية. أما الرومان نقطة وصل بين اليونان والجرمان لأن الرومان «لم تكن عندهم فلسفة أصيلة ولا شعر أصيل». (ص 203). أما الفلسفة الحقيقية «الفلسفة الجديدة، الفلسفة الحديثة، بدأت مع ديكارت. هذا هو عمر الفلسفة في أوروبا. وهذا تقسيم تاريخها في مجمله». (ص 204).

الخلاصات النظرية - التاريخية التي توصل إليها هيغل في ملاحقة تطور الفكر (علم الفلسفة) أخذ بها لاحقاً الثنائي ماركس - انغلز في إطار التحقيب الزمني (المنهج الديالكتيكي للتاريخ) واختلف عنه في قواعد (آليات) وميدان التطور. هيغل ركز فلسفته على تاريخ الأفكار (الروح) والثنائي اتجه نحو تأكيد تاريخ الاقتصاد (المادة). واختلاف الرؤية يعود إلى اختلاف الزمن. هيغل عاصر بدايات انتشار الثورة الصناعية (الآلة البخارية) بينما الثنائي عاش تفاعلات الموجة الثانية من الثورة الصناعية وامتدادها القاري وتأثيرها على تعديل العلاقات الاجتماعية وما أفرزته من نمط إنتاجي متقدم في منظوماته السياسية والثقافية وتسارع وتيرته العلمية.

الاختلاف في قراءة التطور وآلياته اقتصر على الوقائع الملموسة ولم يشمل المنهج أو تعيين الفترة الزمنية التي بدأت فيها النهضة في أوروبا الحديثة. فالثنائي يشير في «البيان الشيوعي» الذي صدر في العام 1848 إلى صراع الطبقات (لا صراع الأفكار) ويؤكد أهمية الاكتشافات الجغرافية في إطلاق سراح البورجوازية من الأسر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر... «كان اكتشاف أميركا والطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح الذي فتح للبورجوازية الوليدة ميدان عمل جديد. فإن أسواق الهند الشرقية والصين والاستعمار الاستيطاني لأميركا والتجارة مع المستعمرات وتزايد وسائل التبادل والسلع عموماً، كل هذه دفعت التجارة والملاحة إلى الأمام بقوة لم تكن معروفة إلى ذلك الحين».

هذا التوسع العالمي لاقتصاد أوروبا لعب دوره في تسارع وتيرة انحلال المجتمعات القديمة التي لم تكن مستعدة أو قادرة على تلبية حاجات السوق. وبرأي الثنائي (ماركس/ انغلز) أن «تطور أوروبا وانتقالها من عصر المانيفكتورة إلى عصر الآلة البخارية قاد إلى انقلاب في الإنتاج»، وهذا التحول لم يكن بإمكانه أن يحصل لو لم يتم اكتشاف أميركا والسوق العالمية إذ «أوجدت الصناعة الكبرى السوق العالمية التي هيأ لها اكتشاف أميركا. وأدت هذه السوق إلى توسع هائل للتجارة والملاحة والمواصلات البرية، ثم أثر هذا التوسع بدوره في اتساع الصناعة». (البيان الشيوعي).

هذا على المستوى الاقتصادي. أما على المستوى الفكري فقد ربط الثنائي تطور الفلسفة المادية بتطور العلوم. فالعلوم الطبية والفلكية والاختراعات التقنية والاكتشافات ساهمت في تطوير الأفكار وتعديلها ونقلها من المتيافيزيقية (الماورائيات) إلى الميكانيكية (الآلية). وبهذا السياق يرى ماركس/ انغلز أن الفلسفة الحديثة ارتبطت بالعلوم الحديثة إذ «ارتبطت المادية الميكانيكية الفرنسية بفيزياء ديكارت، بالتعارض مع ميتافيزيقيته. وكان تلامذته معادين للميتافيزيقا أي فيزيائيين. ابتدأت هذه المدرسة مع الطبيب لوروا Leroy، ووصلت إلى ذروتها مع الطبيب كاباني Cabanis، وكان الطبيب لامتري Lamettrie محورها (...) لاتزال المادية الديكارتية موجودة حتى الآن في فرنسا. وهي تسجل نجاحاتها الكبرى في علم الطبيعة الآلي». (راجع ماركس في كتاب العائلة المقدسة).

اختلاف الثنائي الماركسي عن هيغل جاء استتباعاً لتغير ظروف المكان والزمان. والتعارض في تحديد نتائج آليات التطور (الفكر أو الاقتصاد) لا يعني اختلافهما على موضوع التقدم والتوقيت الذي حصل فيه. الطرفان يتفقان على أن القرن الخامس عشر كان بداية أوروبا المعاصرة وبعده أخذت آليات التطور (التناقض، نفي النفي، والنتيجة) تتداعى وتتشكل في أنساق حديثة تتناسب مع درجة التقدم الاقتصادي وما تقتضيه حاجات السوق ومتطلبات النمو من تسويات.

برأيهما التناقض (انشطار الوحدة) يؤدي إلى التطور. والتطور يؤدي إلى التناقض (الانشطار) في سياق وحدة أرقى (أعلى من السابق) وهكذا يتقدم العالم في خطواته إلى الأمام والأعلى. الدفعة الأولى كانت في القرن الخامس عشر وبدأت مع السفينة (الاكتشافات الجغرافية) وأدت إلى جرف الكثير من هيبة الكنيسة وأيديولوجية المقدسات والمحرمات. وجاءت الدفعة الثانية (الآلة البخارية) في القرن الثامن عشر وأخذت تجرف معها تلك البقايا من الموروثات من دون أن تلغي حلقات التواصل في السلسلة التاريخية وما تعنيه من تراكم في العمران والمعرفة. انغلز مثلاً يؤكد في لغته الماركسية أن البورجوازية «التي كانت بادئ ذي بدء فئة إقطاعية قد وصلت بالصناعة الحرفية في الغالب وتبادل المنتجات داخل المجتمع الإقطاعي إلى درجة تطورية رفيعة نسبياً، عندما هيأت لها الاكتشافات الكبرى للطرق البحرية في أواخر القرن الخامس عشر أفقاً جديداً أوسع». (ضد دوهرينغ، ص 122). المجتمع الحديث بدأ يتشكل بداية في إطار التوسع الجغرافي وما أنتجه من مردود بضاعي (سلعي) وما أعطاه من بعد إنساني (كوني) للمعرفة الأوروبية.

الدفعة الثانية جاءت لاحقاً من الآلة البخارية (تطور علم الميكانيك) وهي برأي انغلز أقل أهمية في تأثيرها الإنساني/ العقلي عن تلك التأثيرات التي أنتجها اكتشاف الإنسان للنار «فإن توليد النار بالاحتكاك هيأ للإنسان لأول مرة السيطرة على قوة معينة من قوى الطبيعة وبذلك فصل الإنسان نهائياً عن مملكة الحيوان. أما الآلة البخارية فلن تستطيع أبداً أن تولد مثل هذه الطفرة الهائلة في تطور البشرية» (ص 134). ولكن، على الرغم من ذلك، بدأ الإنتاج الرأسمالي الحديث يتقدم ويتوسع بسبب تلك الآلة «الذي غدا سائداً فقط منذ ظهور الصناعة الكبيرة، أي منذ مئة عام لا غير». (ص 173).

قراءات هيغل وماركس وانغلز لجدلية التطور وتاريخيته والاتفاق على توقيت لحظتها الزمنية يكشفان تسارع وتيرة التقدم في حقبة لا تتجاوز القرون الأربعة. فالنهضة التي اجتاحت أوروبا تشكلت في محطات وانتقلت من البرتغال (لشبونة) وإيطاليا (توسكانا) إلى إسبانيا (عبور الأطلسي) إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا والعالم الجديد (الولايات المتحدة) نجحت في إعادة تعريف هوية القارة وأخذت بتركيز مواقع قوى بدأت تتنافس على زعامة أوروبا وقيادة العالم. والتزاحم السياسي الذي أخذ يشتد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأ ينتج شريحة متمردة من النخبة الأوروبية تبحث عن دور أو مكان في خضم طفرة من الفلاسفة. وظهور مثل هذه الشريحة الناقمة على رموز التنوير أو الكارهة لتداعيات الحداثة شخص بدوره محطة زمنية من التطور الذي لم يعرف الاستقرار منذ أن فتحت الملاحة البحرية أبواب التقدم

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2835 - الخميس 10 يونيو 2010م الموافق 27 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً