العدد 2869 - الأربعاء 14 يوليو 2010م الموافق 01 شعبان 1431هـ

تأملات الرفيق كاسترو

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تكهن الزعيم الكوبي المتقاعد في مقال رأي كتبه في موقعه (تأملات) بتدحرج أزمة الملف الإيراني وصولاً إلى دخول العالم شفا حرب نووية تصل إشعاعاتها إلى كوريا الشمالية.

منذ تقاعده عن رئاسة كوبا في فبراير/ شباط 2008 تاركاً المنصب لشقيقه راوول بدأ الرفيق فيدل كاسترو بكتابة تأملاته السياسية على موقع رسمي تشرف على إدارته هيئة إعلامية تعود ملكيتها للحزب الشيوعي الحاكم منذ الإطاحة بالنظام الديكتاتوري الموالي للولايات المتحدة. فالحزب الذي قاد الثورة في العام 1959 واستولى على السلطة ظهر على الشاشة المرئية في صورة شابة (فتية) بهرت أنظار جيل أخذ يتطلع إلى إمكان حصول تعديلات في معادلة القوة بين أميركا الجنوبية (اللاتينية) وأميركا الشمالية (الولايات المتحدة).

آنذاك قاد الثنائي تشي غيفارا - كاسترو حركة عسكرية (حرب عصابات) في الجبال سرعان ما هبطت إلى المدن وصولاً إلى العاصمة هافانا. بعدها اتجه الثنائي إلى الفكر الاشتراكي (الماركسي) وفتح خطوط اتصالات وإمدادات مع الاتحاد السوفياتي بقصد تحويل الجزيرة إلى بؤرة ثورية على مقربة من شواطئ فلوريدا.

لاقت الثورة الكوبية تعاطفاً من الشعوب المقهورة في العالم مضافاً إلى تأييد عملي من اليسار اللاتيني في أميركا الجنوبية ما ساهم في تحريك انتفاضات ريفية وإضرابات عمالية ومواجهات دائمة بين قوى التغيير والأنظمة المرتبطة بشبكة من العلاقات التجارية - الأمنية مع الولايات المتحدة.

أخذ التعارض بالتطور إلى أن انتهى المشهد الأول بثلاث لقطات: الأولى، انقلابات عسكرية نظمتها الأجهزة الأميركية في الدول اللاتينية لمنع الانهيار العام وخروج القارة من تحت مظلة نفوذ الولايات المتحدة. الثاني، مقتل الثائر الأرجنتيني غيفارا في أدغال بوليفيا ومرتفعاتها. والثالث، انفجار أزمة الصواريخ التي نصبتها موسكو في كوبا في عهد الرئيس جون كنيدي ما هدد بانجرار «الحرب الباردة» إلى حوض ساخن.

بعد أزمة الصواريخ انفرج المشهد الثاني على ثلاث لقطات أخرى: الأولى، موافقة الكرملين على تفكيك الصواريخ وإعادتها إلى الاتحاد السوفياتي. الثانية، محاصرة الجزيرة وتطويقها وعزلها عن العالم وتأسيس قاعدتين عسكريتين أميركيتين في جنوب كوبا وشمالها. والثالثة، تثبيت الحزب في السلطة برئاسة كاسترو منذ العام 1962 إلى يوم إعلان تقاعده عن عمر 83 سنة بسبب شيخوخته ومرضه ما اضطره إلى إجراء عملية جراحية في يوليو/ تموز 2006 أضعفت قدرته على المتابعة وممارسة صلاحياته ومسئولياته.

بين الثورة والتقاعد مرت 49 سنة على كوبا لم تعرف خلالها سوى الرفيق كاسترو بينما تعاقب على رئاسة «الامبراطورية» الأميركية عشرة وجوه ديمقراطية وجمهورية وجمهورية وديمقراطية إلى أن انتهى المطاف بوصول أول رئيس من أصول إفريقية إلى البيت الأبيض.

هذه المفارقة بين النمطين الاشتراكي التوريثي (الثوري الاستبدادي) والديمقراطي التداولي (الامبراطورية العالمية) تعايشت على مدى نصف قرن بين الضفتين الأميركية والكوبية ولم تتغير على رغم أن صورة العالم تعدلت مراراً من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال. أميركا لم تتخلص من إرث الحرب الباردة وهي لاتزال تفرض حصارها على الجزيرة عقاباً على تمردها في مطلع ستينات القرن الماضي. وكوبا لاتزال متمسكة بنهج الاشتراكية والثورة (البؤر المسلحة) على رغم رحيل غيفارا الشاب مقتولاً وانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي في أوروبا.

كاسترو الذي أمسك بزمام الحزب والسلطة واحتكر الرئاسة نحو نصف قرن لايزال حتى الآن يرفض الاعتراف بحصول متغيرات دولية وجوارية، معتبراً أن زمن الاشتراكية وقطارها التاريخي يواصل تقدمه في طريقه إلى الانتصار الكبير. أما الولايات المتحدة التي عصفت بها رياح التغيير من الداخل بعد اغتيال كيندي ومارتن لوثر كينغ ومالكوم اكس واضطرت إدارتها في عهد ليندون جونسون إلى إصدار قوانين الحقوق المدنية التي ساوت الأفارقة والأقليات الملونة بالبيض وأعطت المواطن بطاقة مفتوحة للترشح والانتخاب، لاتزال تعيش ذاكرة أزمة الصواريخ التي كادت أن تشعل مواجهة نووية بين واشنطن وموسكو في عهد نيكيتا خروتشوف.

التمسك بالماضي بين الجارتين يمكن اعتباره آخر بقايا «الحرب الباردة». فأميركا التي خلعت ثوبها الأبيض (البروتستانتي الانغلوساكسوني) لاتزال مصرة على مواصلة حملة التأديب ضد الشاب المتمرد على نفوذها. وكوبا التي شاخت وغابت عن المشهد الدولي لايزال يصر رئيسها المتقاعد على تكرار مقولات أكل الدهر عليها وشرب من خلال الإطلالة الأسبوعية وأحياناً اليومية من موقعه المنزوي.

مقالات كاسترو التي تصدر بعنوان «تأملات» بلغت فعلاً طور الشيخوخة (83 سنة) ولم تعد تمتلك تلك القدرة على التأثير والإقناع كما كان حال الثنائي (غيفارا - كاسترو) الشاب في مطلع ستينات القرن الماضي. آنذاك اكتشف غيفارا (الثوري) باكراً أنه ليس رجل دولة وشخصيته الحركية (النضالية) لا تصلح للحكم وإدارة البلاد من وراء الطاولة وعلى الكرسي، فقرر الاستقالة من وظيفته الرسمية والخروج من الجزيرة إلى الغابات والاستشهاد إلى جانب المزارعين في جبال أميركا اللاتينية.

كاسترو الذي رفع صورة غيفارا الشهيد عالية في هافانا استمر يتحكم بمقاليد الحزب والسلطة إلى لحظة اكتشافه المتأخر أنه تقدم في السن ولم يعد بإمكانه المراهنة على الثورة العالمية الدائمة بعد أن تفكك حليفه إلى جمهوريات أخذت تقترب من النموذج الأميركي - الأوروبي بعيداً عن حلم الاشتراكية.

سيرة كاسترو الفكرية - العملية تستحق إعادة القراءة لأنها فعلاً تشبه تطور الدول المقفلة التي وصف ابن خلدون عصبيتها الحركية في مقدمته. فالدولة المنطوية على داخلها لا تختلف في آلياتها الزمنية عن حياة الإنسان الذي يتدرج في سنواته من طور الطفولة والمراهقة والشباب إلى الكهولة والشيخوخة وصولاً إلى التقاعد والانزواء عن العالم وصوره وتحولاته. كاسترو الذي بدأت سيرته الفكرية في البؤرة الثورية والماركسية والثورة الاشتراكية العالمية انتهت في مجاله الخاص إلى التقاعد وتأمل العالم الخارجي من خلال نافذة يطلّ بها على القراء بعنوان «تأملات». والغريب في تفكير كاسترو إصراره على مخالفة الزمن وعدم الانتباه إلى وجود متغيرات في محيطه وبعيداً عنه، كما حصل معه حين تقدم في السن من طور الشباب (البؤرة الثورية) إلى طور الشيخوخة (تأملات).

بين البؤرة والتأمل غاب نصف العالم عن كاسترو بينما النصف الآخر دخل في غيبوبة لا تقارب أفكاره وتوقعاته وتكهناته ومنها تلك التي ارتأى أن «العالم يقف على شفا حرب نووية بسبب الملف الإيراني». الاحتمال الذي توصل إليه الشيخ كاسترو يشبه كثيراً أحلامه الجميلة التي حملها الثنائي الشاب. فالأحلام لم تتحقق واستفاقت على كابوس الانهيار، والحرب النووية يرجح ألا تحصل كما تتأمل تكهنات شيخوخة تقدمت بالسن، ولكن العالم تغير فعلاً لسبب بسيط وهو أن العالم لا يستطيع أن يستمر إذا لم يتغير.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2869 - الأربعاء 14 يوليو 2010م الموافق 01 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:54 م

      وليد كاسترو

      روعة الموضوع

    • زائر 1 | 4:54 ص

      العالم

      العالم يتغير والعرب في نمومهم ماضون حكام وحاشيه منافقون ورجال دين في فتواهم يعمهون وهمهم التكفير والفتنه وعلى دين ابائهم سائرون

اقرأ ايضاً