العدد 2964 - الأحد 17 أكتوبر 2010م الموافق 09 ذي القعدة 1431هـ

«شرف» صنع الله إبراهيم (2 - 2)

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

إذا ما حاولنا تصنيف «شريف» وفقاً للمدارس الأدبية، فإنها تنتمي إلى أدب السجون، والمقصود به تلك المؤلفات التي تتحدث عن تجربة مدوِّنها في فترة اعتقاله. ومعظم الإنتاج العربي، إن لم يكن جميعه في هذا المجال، أنتجه معتقلون سياسيون، الأمر الذي أضفى عليه نكهة خاصة، حيث حاول الكثير من هؤلاء، أن يربط بين تجربته الخاصة، والأوضاع السياسية التي كانت قائمة، وأدت إلى اعتقاله، ومن أبرز الأعمال الأدبية في هذه الفئة «مجنون الأمل» لعبداللطيف اللعبي، و«الحياة بين يدي الملك» للمغربية لسكينة أوفقير، و»تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلون وهناك الرواية التي عرفت بعنوان «البكاءة» لسعد زهران، «شهادات ووثائق» لصلاح عيسى، و»نجمة أغسطس» لصنع الله إبراهيم ذاته. أما على المستوى الخليجي فالأبرز هي رواية «شرق المتوسط» للمرحوم عبدالرحمن منيف.

وعلى مستوى البحرين، برز نمط مختلف عما يمكن أن ندرجه في فئة أدب السجون، مثل كتاب السيرة الذاتية لأحمد الشملان، التي لم يستطع أن يدوّنها شخصياً، نظراً لظروفه الصحية، رغم قدرته الإبداعية، وقامت بذلك، نيابة عنه، رفيقة دربه فوزية مطر، حيث نجحت في نقل الكثير من معاناته ورفاقه الآخرين في سجون البحرين المختلفة. هذا لا يغفل أهمية الكثير من إبداعات السجون الأخرى التي يصعب هنا سرد أسمائها جميعاً.

وهناك بعض المدارس التي تحاول أن تؤرخ لهذه الفئة، فترجع جذور أدب السجون التاريخية «روميات» أبي فراس الحمداني، وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم.

والبعض يعتبر أدب السجون ما دونه أيضاً الإمام أحمد ابن حنبل من أشعار إبان فترة اعتقاله، التي قال فيها:

لعمرك ما يهوى لأحمد نكبة

من الناس إلاّ ناقص العقل مُغْـوِرُ

هو المحنة اليوم الذي يُبتلى به

فيعتبر السنِّي فينا ويسبُرُ

شجىً في حلوق الملحدين وقرَّةٌ

لأعين أهل النسك عفٌّ مشمِّرُ

لريحانة القرّاء تبغون عثرة

وكلِّكُمُ من جيفة الكلب أقذرُ

فيا أيها الساعي ليدرك شأوه

رويدك عن إدراكه ستقصِّرُ

نعود بعد ذلك إلى «شرف»، حيث يوفق صنع الله إبراهيم في محاربة الكثير من القيم والممارسات التي يرفضها من خلال سرد أحداث مشابهة لها شاهدها من زنزانة اعتقاله. فتعبيراً عن رفضه لذهنية التعصب الطائفي الديني، ينقل حادثة تعرض المعتقلين المسيحيين لانتقام فئة إسلامية كانت رهن الاعتقال حينها، ما أدى إلى ما يشبه المذبحة جعلت السجين المسيحي سامي، يخشى أن يرى السجناء الآخرين احتفاظه بنسخة من الكتاب المقدس معه. لكن صنع الله لا يترك الأمور على عواهنها، فنراه يسارع في صفحة 362، كي يرى في تلك الحالة ظاهرة استثنائية في العلاقات المسحية - الإسلامية في البلاد العربية، فينقل هذا الحوار عندما احتفل المساجين المسيحيون بيوم شم النسيم سوية مع إخوتهم المسلمين الذي كانوا يحتفلون أيضاً بعيد الفطر:

«فكرة العرض هذه آتية من بورسعيد، لا أقصد أنها مستوردة، فنحن نتحدث عن بورسعيد قبل أن تصبح حرة، وفي الحقيقة قبل زمان بعيد، عندما قامت ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني، فقد تصادف أن حلّ عيد الفطر مع عيد شمس النسيم، في اليوم نفسه، فشارك مسلمو بورسعيد أقباطها في احتفال، ورفعوا جميعاً شعار الهلال والصليب، ثم أعدوا تمثالاً من الخشب للجنرال الإنجليزي الشهير اللنبي، وأحرقوه، ومن يومها في كل عيد لشم النسيم، يفطر البورسعيديون بكعكة من الخبز تتوسطها بيضة مشوية، ملونة».

ما الذي كان صنع الله يريد أن يقوله هنا، بالإضافة إلى شجبه للتعصب الديني؟ أن يصدمنا، كما يفعل في العديد من أجزاء الكتاب، بأننا كنا في أيام الاستعمار في أحسن حال مما نحن عليه اليوم، وبأن «الاستعمار وحدنا»، لكن «الاستقلال، بخلاف الأمم الأخرى، مزقنا».

يلامس صنع الله في رواية شرف بعض القضايا الاجتماعية مثل مسألة المرأة، مسلطاً الضوء على بعض أشكال القمع التي باتت تتعرض لها، ومن بينها «الزواج العرفي»، الذي يجسده هذا الحوار بين «توكل « و»الحاج شوقي»، حيث يبدأ «توكل الحوار متسائلاً: «أمال بقى... لو كان الواحد بدل ما إتجوز بهايم مش كان أحسن؟ أنا متجوز من ثلاثة وعشرين سنة وحبيت خمسة، وإتجوزت على مراتي، وبعدين طلقت الجديدة، وإتجوزت عرفي. جاراه الحاج شوقي متسائلاً: وأني واحدة فيهم بتبسطك؟ فيجيب توكل: اللي متجوزها عرفي، فيرد عليه الحاج شوقي لازم تحسس مراتك أنه فيه واحدة ثانية وياريت تعرفها، وتكون أقل منها في حاجة عشان تتجنن. أيوه كده».

أمثلة سياسية كثيرة يسوقها صنع الله في سياق ربط مبدع يشد القارئ فيه كي يعيد النظر في الكثير من القيم السياسية التي باتت تسود اليوم المسرح السياسي العربي، سواء كان ذلك في العلاقة مع الغرب، أو العلاقات العربية العربية، أو على مستوى الانتماء الإيديولوجي.

في الفقرة الأخيرة من شرف يقول صنع الله «حملت الفانلة النظيفة وفوطتي والصابونة البالموليف. وسبقني إلى الدورة فأعدّ لي دلواً كبيراً ممتلئاً بالمياه الساخنة... أنزلت الستارة، وخلعت ملابسي... وتناولت الماكينة فقربتها من أعلى فخذي وبدأت في إزالة الشعر».

وهنا يجد القارئ نفسه مرة أخرى أمام علامة استفهام كبيرة تفزعه قائلة: هل يعتقد صنع الله أن الحياة فيها الكثير من العبثية التي تصل إلى مستوى استحالة التغيير بالطريقة التي يطمح فيها الثوريون؟ وأن هناك آلة ضخمة تعيدهم نحو الخلف وترغمهم على البدء من جديد، تماماً كما يرد في الموروثات الإغريقية التي تتحدث عن صخرة سيزيف، أم أنه خلاف لذلك يحاول أن يزرع في نفوس قرّائه شيئاً من الأمل، حين يجسّد لهم إصرار «شرف» على أن يبدأ من جديد، مهما بلغ تراجعه، يحدوه في ذلك أمل لا يملكه، أيضاً، سوى قلة من الثوريين الصبورين ذوي النظرة البعيدة».

لا أفشي سراً حين أصارح القارئ، أنني، وعلى امتداد رحلة قراءتي لرواية «شرف» ولأكثر من أسبوع، لم يغب عن بالي مسرح البحرين السياسي خلال الأشهر الأربعة الماضية، فكم هي المشاهد المماثلة التي انتصبت أمامي عندما أحاول المقارنة، والله من وراء القصد.

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2964 - الأحد 17 أكتوبر 2010م الموافق 09 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:48 ص

      شكر

      الشكر الجزيل لكاتب المقال واتمنى الاستمرار في نقد الادب العربي حتى يصلنا نحن الناس العاديين حيث انه لا يوجد دعم اعلامي للادب العربي, بصراحه شوقتني لشراء الكتاب

اقرأ ايضاً