العدد 3043 - الثلثاء 04 يناير 2011م الموافق 29 محرم 1432هـ

الفكر الفلسفي والخمول الاجتماعي... (1-2)

محمد عزالدين الصندوق - كاتب عراقي، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya 

04 يناير 2011

لم تعرف الحضارات الشرق أوسطية الفكر الفلسفي كما عرفته أوروبا منذ الحضارة اليونانية القديمة (نحو 400 قبل الميلاد)، حيث كان الرواد الأوائل سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس... راسمي خط النشاط الفكري المتسائل. وعندما جاءت الديانة المسيحية (الشرق أوسطية) إلى أوروبا لقيت في الفكر اليوناني حاضناً ساعدها على أن تتبلور في فكر فلسفي منسق (أوغسطينوس ووليم أوكام وتوما الاكويني و....). وعلى ذلك ألف الفكر المسيحي المنطق والجدال الفلسفي. وعندما حاول الفكر الديني التسلط من خلال سلطة الكنيسة الدنيوية، انبرى الفكر الفلسفي ذاته وذو الجذور الاجتماعية العريقة لمحاولات الهيمنة هذه وتمكن من تحجيمها.

إن روح النقد والمنطق التي كانت سائدة قبل سيادة الفكر المسيحي في أوروبا كانت هي السبب وراء تحجيم السلطة الدينية. هذه الروح الفعالة لم تكن منعزلة عن مجتمعها لأنها ولدت ونمت في هذا المجتمع. لذا فإن أي إبداع فكري يمكن أن يحتضن حتى لو واجهته ظروف وأساليب قمعية مرحلية، وهكذا ظهر المبدعون في شتى مجالات المعرفة نتيجة لقوة وتجذر روح النقد والمنطق في المجتمعات الأوروبية التي تبنت الفكر الفلسفي اليوناني وطورته واعتبرت نفسها وريثة له.

لقد عرفت حضارات الشرق الأوسط القديمة الفكر التطبيقي، حيث بنوا واكتشفوا ما ساعدهم في حياتهم اليومية، ولجأوا للتأمل الروحي متمثلا بالكثير من الديانات التي ظهرت في المنطقة. كل هذا النشاط الفكري والانجازات الكبيرة السباقة لحضارات لم ترق إلى الفكر الفلسفي المنطقي المنظم كما كان في شرق أوروبا، وبقيت الثقافة لسانية بعيدة عن المنطق الفلسفي والحوار الجدلي.

و هكذا عند ظهور الإسلام في الجزيرة العربية لم يكن هناك فكر فلسفي سابق له، والنشاط الفكري الذي كان سائدا لا يتعدى الفنون الأدبية التي اشتهرت بها المنطقة والتصورات الدينية المحلية. فالعرب لم يكونوا على معرفة بالفكر الفلسفي مطلقا ولا بالنقاش الفكري. وحتى من خلال اختلاط العرب بعد الإسلام بأقوام المنطقة لم يكن هناك ما يماثل النشاط الفلسفي المنظم، ولكن في نهاية الفترة الأموية وبداية العصر العباسي انفتح العرب على الثقافة الفكرية اليونانية وأخذت الفلسفة تجد لها من متقبلين. وهذا ما يفسر الانفتاح الفكري وظهور أفكار فلسفية جريئة في العهد العباسي الأول. فأخذ الحوار والجدال الفلسفي طريقه إلى المدارس الدينية التي استقبلته إلى حد ما، ولكن مع ذلك كان الفكر الفلسفي هذا فكراً وافداً وليس ابناً وليداً في المنطقة، ولم يكن له هناك تقبل اجتماعي واسع، إنه بمعنى آخر كان فكراً نخبوياً. لقد افرز الفكر الفلسفي وقت ذاك آراء جريئة وحوارات فكريه ساخنة. لقد كانت محاولات الفلاسفة العرب الجدد رائعة وقت ذاك وقادت إلى نهضة فكرية وعلمية كبيرة امتدت إلى القرن العاشر الميلادي تقريبا.

إلا أن هذه النهضة الفكرية لم تستمر إلا نحو ثلاثة قرون تقريبا، حيث وئِدت في عهد الخليفة العباسي المعتمد ليرزح بعدها الفكر الإسلامي في قوالب صنميه متنامية في سكونيتها. وهكذا فإن الفكر الإسلامي لم يتم احتضانه فلسفياً كما سبق للمسيحية وإن تم احتضانها. لقد كان وأد الفكر الفلسفي الإسلامي الوليد سهلاً وسريعاً وذلك لعدم وجود جذور فكرية للعقل الفلسفي في المجتمعات العربية والإسلامية أساسا. لقد قادت عملية الوأد هذه إلى كوارث هائلة حلت بالمجتمعات العربية والإسلامية امتدت منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.

هكذا تم تجميد الفكر والمجتمع ليعيش سباتاً ولمدة قرون عدة حتى سقوط وتلاشي الدولة العثمانية. لذا فإن المجتمعات العربية مجتمعات لا تعرف القراءة الفكرية، إذ إنها أميل للقراءة الدينية والأدبية والتاريخية السردية. أما الإنتاج الفكري التحليلي أو النقدي فإنهم بعيدون عنه. وهذا ما قاد إلى ما دعاه أركون بالجهل المقدس. الجهل المقدس هدا حَرَم الإبداع واعتبره ظلاَل ووضع خطوط فكرية حمراء كثيرة، وحَوَلَ الشخصية الاجتماعية إلى دُمية تحركها أصابع المفسرين النقليين والباحثين في كتب التاريخ القديمة عن نماذج جاهزة للتطبيق. أما المفكر السعودي إبراهيم البليهي فإنه يحلل الوضع بصورة أخرى، حيث يرى أن العرب المسلمون هم أمة «اقر» والتي تطلب من الآخرين التعلم منها دون أن تتعلم هي من الآخرين. إنها أمة تأمر الآخرين بالقراءة دون أن تقرأ هي. هذه التحاليل سواءً الجهل المقدس أو الأمة التي لا تتعلم ولا تريد أن تتعلم يعني أن هناك حدودا معرفية تم الوصول لها ولا شيء بعدها. وهكذا وقفت هذه المجتمعات ساكنة منذ أكثر من عشرة قرون. هذا ما أفرزته مرحلة الوأد الفكري الأول في عهد المعتمد العباسي والذي نمى وتطور حتى وصلت الحالة الفكرية إلى ما هي عليه الآن.

لقد مرت أمم العالم أجمع بمختلف الأدوار والتطورات التاريخية سلبية كانت أم ايجابية وإذا لم تتطور علميا فإنها نشطت فكريا إلا المجتمعات العربية الإسلامية فإنها عاشت منعزلة عن الآخرين حامية نفسها بخطوطها الحمراء التي تم خطها منذ أكثر من عشرة قرون. وفقد العرب حتى إبداعهم الوحيد الذي كانوا يتفاخرون به وهو الأدب ولغة الشعر، حيث دخل العرب القرن العشرين وهم أبعد ما يكونوا عن لغة عنترة وحسان بن ثابت.

لقد خلقت الخطوط الحمراء حاجزا فكريا هائلا قاد ومازال يقود إلى كوارث اجتماعية خطرة، وأصبحت هذه الخطوط تشكل إعاقة فكرية اجتماعية ممتدة ومتنامية إلى قرون ويصعب تجاوزها في مناخ صنمي جامد يأكل بعضه بعضاً. من دون إشعاع فكري نشأت أجيال وأجيال وهي كما هي والعالم يتطور بشكل أو بآخر. خلال القرون الخمسة الماضية تطورت الحياة العلمية والفكرية والاجتماعية وحتى الدينية في الكثير من مجتمعات العالم، وظهر الكثير من المبدعين في مختلف المجالات منهم من رفضهم مجتمعهم ومنهم من تقبله مجتمعه وهكذا تأخذ الحياة مسار تطورها. أما المجتمعات التي كانت قابعة تحت السيطرات الفكرية الإسلامية عثمانية كانت أو صفوية أو أي نمط آخر، فإنها لم تعرف حرية للفكر التي توقفت منذ قرون، والتي هي شرط الإبداع الأساسي، لذا لم تعرف هذه المجتمعات ظاهرة النشاط الفكري الإبداعي والحوار الفلسفي، وإذا ما شاء القدر وان يظهر من يقدم فكرة أو بدعه رُمي بالكفر والخروج عن المألوف.

العدد 3043 - الثلثاء 04 يناير 2011م الموافق 29 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 9:29 ص

      الموضوع لا يتكلم عن امة اقرا بالتحديد

      بدايه احب اني ادم فكرة الكاتب التي عرض هذه الفكره في خضم هذه الميمعه التي نواجهها الان في هذا المجتمع الشرقي
      فعند سماع هذه الاسم"شرقي " الذي يفرق بين الشرق والغرب عدى انه يظهر بعد المسافه انما هو ايضا يظر بعد التفكير والتفتح الحضاري
      فالمجتمع الشرقي يرفض فكره التفتح بحجه الدين او بحجة الغنى عنه يرفضونه وهم بحاجه له حتى ان هذه المجتمع لم يصل لتقبل هذه الفكره
      وشكرا
      ومع احترامي لجميع المعلقين هنا لكن هذه النقد لا يتكلم فقط عن امة اقرا انما عن المجتمع كله بشكل عام

    • زائر 2 | 8:43 ص

      البرباري ... شكرا للوسط على نشرها مقالة الدكتور الفيزيائي والمهتم بالعلوم الفلسفية

      لما تمثله من مساهمة في نشر الفكر الحر واعلاء الكلمة الحرة حيث عرف استادنا بكتاباته النقدية وتصديه للثقافة المتوارثة دات الخطوط الحمراء ، الكاتب له مقالة يرفض فيها ان اللغة العربية لغة علم موضحا ان العرب دخلوا القرن العشرين عراة لا يملكون من مقومات الحضارة شيئا ، وقد حدد ثلاث اطوار مرت بها لغتنا ، الاول ما قبل الاسلام وقد تميّز بالابداع الشعري ، والثاني هو اضفاء القدسية عليها بفعل القرآن ، اما الثالث فهو في العصر العباسي بفعل ما احدثته الترجمة على يد اليهود والمسيحيين والصائبة من جدل فكري وانفتاح

    • زائر 1 | 4:59 ص

      علي مدينة العلم

      إذا أولاد رسول الله
      و أحفاده ما أحسنوا احترامهم فكيف بالعلماء العاديين؟
      و لو قدروا و وقروا أهل البيت لكنا أفضل الأمم كما وصفنا القرآن
      ولكن هيهات من أمة قتلت ابن بنت نبيها و الظليمة الظليمة ممن ظلوموا الأمة بهذه الأفعال الشنيعة

    • Ebrahim Ganusan | 10:47 م

      أمة أقرأ ولاكن لاتقرأ وأن قرءت أسآءت للقراءة

      نحـــن أمـــة لاتعـــرف للعظـمـــــاء قدر وقيـــــمة الا بعد رحيلــــهم .أبن رشد (المعلم الشارح) كما يسميه اليهود خير مثال .العرب طردوه واليهود قدروه

اقرأ ايضاً