العدد 3097 - الأحد 27 فبراير 2011م الموافق 24 ربيع الاول 1432هـ

ليبيا: على قدر عزم السلطة تأتي العزائم

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الانهيار الليبي انكشف الآن أمام مشاهد ثلاثة: الأول، التدخل الدولي الذي ظهر في قرار مجلس الأمن والتصريحات الرسمية الأميركية والأوروبية. الثاني، التدخل العربي الخجول الذي ظهر في تجميد عضوية «الجماهيرية» في جامعة الدول العربية مترافقاً مع تصعيد إعلامي ضد عنف الديكتاتور وجبروته. الثالث تفكك سلطة الديكتاتور وانكفاء قوته وتبعثرها إلى مجموعات مرتزقة ومتهورة تتحكم ببعض المواقع في العاصمة طرابلس ومحيط بعض ضواحي المدن والبلدات في المناطق الشرقية من البلاد.

المشاهد الثلاثة تفتح الباب أمام ثلاثة احتمالات: نمو التدخل الدولي وتطوره باتجاه استخدام القوة لحماية المصالح والجاليات، أو ازدياد الضغط العربي باتجاه تطوير الحماية للانتفاضة ودعمها من خلال بوابات الحدود المصرية والتونسية، أو اتساع نطاق الثورة جغرافياً وتحطيم آخر معاقل الديكتاتور في العاصمة وغيرها من مناطق تعتبر خاصة وعائلية (أسرية).

في كل الحالات أصبحت ليبيا الآن داخل المشهد العام وباتت صورة الديكتاتور في وضع مهشم يصعب ترميمها وإعادتها إلى ما كانت عليه. ليبيا دخلت منذ أسبوعين في حقبة جديدة وهي لن تخرج من الأزمة قبل دفع الكلفة العالية والغالية للتغيير.

التغيير في البلدان التي تتحكم بها سلطة فردية ديكتاتورية مسألة صعبة وسهلة في آن. صعبة لأن السلطة دموية وشرسة ولا تتراجع باعتبار أن السياسة عندها تتلخص في خطاب «إلى الأمام. ثورة. ثورة». وسهلة لأن قاعدة الديكتاتور تكون عادة فئوية وضيقة ومحدودة وموزعة على حلقة ضيقة من المريدين والمستفيدين.

التسلط الديكتاتوري الذي يتأسس على الفرد لا يأبه لبناء مؤسسات موازية تعتمد على وسائط اجتماعية ممتدة في مختلف المناطق والجهات. وبسبب طبيعة السلطة المختصرة والمختزلة في بناها الاجتماعية تصبح عرضة للانهيار السريع حين تواجه أزمة غير مألوفة في غضبها وقوة احتجاجها.

على قدر عزم السلطة تأتي العزائم. فالسلطة العنيفة والدموية والقاهرة في تعاملها مع الناس تنتج قوة مضادة على صورتها لأنها في طبيعة تكوينها لم تترك للجماعات الأهلية سوى خيار التصدي والمواجهة مهما كانت كلفة التغيير وحجم الخراب والتضحيات.

المشهد الليبي الدموي خاص في صورته وهو لم يتمظهر في الساحتين التونسية والمصرية على رغم سقوط مئات الضحايا والجرحى في البلدين قبل أن يستقيل رأس النظام ويرحل.

الديكتاتورية على أنواع. فهناك فئة اجتماعية تؤسس قوتها الفردية على قاعدة الحزب والنظام والمؤسسات. وهناك فئة عسكرية تستبد بالسلطة على قاعدة الفئوية والأجهزة والمحسوبية. وهناك فئة أيديولوجية تصادر السلطة على قاعدة الحق الخاص والغلبة وتهميش الناس وعزلهم في ما يشبه المعتقل السياسي (معسكرات الاحتجاز).

الشعب الليبي خلال أربعة عقود وضع في إطار أسوار مقفلة توالدت في داخله الأجيال تستمع يومياً إلى خطابات وإرشادات وتعليمات وتوجيهات ديكتاتور مصاب بالهلوسة وجنون العظمة واحتقار الناس. فهذا النوع من الديكتاتورية الفردية الأيديولوجية لا يحترم المؤسسة ولا يعطي المجال لنمو هامش من القوة إلى جانبه خوفاً من الانقلاب عليه وإخضاعه للمساءلة والاستجواب. ولأن هذا النوع من الديكتاتورية يمتاز بخصوصية استثنائية لا شبيه له يصبح الرد عليه يحتاج بدوره إلى قوة مضادة من صنف خاص واستثنائي وتمتلك ذلك الاستعداد للتضحية حتى تنجح في كسر أظافر الوحش وتحطيم أسنانه وتهميش جبروته.

ما حصل في ليبيا (القذافي) لا يمكن أن يحصل في أي بلد عربي وذلك لاعتبارات تتكثف في تلك الخصوصية والاستثنائية. فالسلطة المهووسة بالمجد والعزة والكرامة الفردية والمجبولة بالجبروت والمكابرة والاستعلاء لا يمكن إسقاطها بالتظاهرات السلمية والإضرابات الشعبية والانتفاضات العفوية والتجمع في الساحات والميادين على غرار ما حصل في تونس ومصر.

في تونس استقال رأس النظام وغادر البلاد ولم تسقط المؤسسات. وفي مصر خرج الرئيس من رأس السلطة واستمر النظام يمارس أعماله استعداداً للتغيير المبرمج دستورياً. في ليبيا اختلف المشهد وذلك لسبب بسيط يتعلق بنوع الديكتاتور الذي هشم المؤسسات وبعثر النظام وحطم الروابط والزوايا حتى يضمن موقعه الفردي في دائرة من الفراغات المحصنة بوسائل القتل والسحل والسحق.

ما حصل في تونس ومصر لا يمكن أن يحصل في ليبيا لأن طبيعة السلطة مختلفة ولا يمكن تقويضها إلا بالقوة والاقتلاع وصولاً إلى الإلغاء حتى يستطيع الناس الخروج من معسكرات العزل والبدء في تأسيس دولة المؤسسات من الجذور.

المشهد الدموي الذي انكشف ميدانياً على الساحة الليبية يكشف في النهاية طبيعة سلطة ديكتاتور حكم الناس بقبضة حديد مدة 42 عاماً. فالسلطة عادة تحتكر القوة لكنها لا تمارس العنف إلا وقت الحاجة، بينما الكولونيل مارس «الحاجة» في كل الأوقات ومن دون انقطاع.

هواية تعذيب الناس يومياً بخطاب الأنا والعظمة والمجد على امتداد 42 عاماً لا يمكن انتزاع صاحبها من موضعه إلا بقوة غاضبة ومقهورة لا تكترث للتهديد بالسحق والسحل والإبادة. ما حصل في ليبيا انفجار وليس انتفاضة. والنهاية يرجح أن تكون مأسوية وتراجيدية وعنيفة ومدمرة لكون المواجهة مختلفة في تكوينها وآلياتها.

المشهد الأخير في ليبيا يتوقع ألا يكون له شبيه في البلدان العربية، لأن النهايات عادة تكون مشابهة للبدايات والبادي أظلم. النظام في تونس لم يسقطه الشعب كذلك في مصر، بينما في ليبيا لا يمكن أن يطمئن الشعب ويرتاح إلا بتحطيم منظومة الديكتاتور وإسقاطه من عرش خطاب أيديولوجي متهلهل ومتهور.

المشهد الدموي في ليبيا مريع ومخيف ومن المستحيل وصفه أو وقفه بقرارات دولية وخطوات عربية وصرخات فضائيات. فهو في تكوينه وطبيعة سلطته يمتاز فعلاً بخصوصية واستثنائية تتطلب رداً لا شبيه له. وهذا الرد الانفجاري إذا وصل إلى مشهده الأخير سيكون مختلفاً في طبيعته وتكوينه، فهو فعلاً سيؤدي إلى نوع من التغيير لا في قمة الهرم كما هو حال تونس ومصر وإنما من قاعدة الهرم. وإذا تحقق هذا الأمر ستكون ليبيا السباقة عربياً في قيادة التغيير بعد انكفاء طال أمده أكثر من 40 سنة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3097 - الأحد 27 فبراير 2011م الموافق 24 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً