العدد 3395 - الجمعة 23 ديسمبر 2011م الموافق 28 محرم 1433هـ

الربيع المصري بين التطلعات الثورية والواقعية الشعبية (2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

يقول الرسول الكريم عليه وعلى آله الصلاة والتسليم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (البخاري ومسلم). ونقول إن مصر بحكم ثقلها وموقعها الجغرافي وثرواتها البشرية تمثل القلب في الجسد العربي، سواءً في فكرها المتوسط أو في سلوكيات شعبها التي تتسم بالاعتدال والبعد عن التطرف الديني أو السياسي أو الطائفي. فلا هي تنتمي إلى السلفية المتشددة ولا إلى الشيعية المتشددة، وإنما هي أمة وسطا، لأهل بيت الرسول مكانة خاصة في قلب كل مصري ومصرية بأكثر مما يعتقد أي شيعي، وللفكر النبوي الصافي مكانة خاصة بأكثر مما يعتقد معظم السلفيين أو غيرهم من دعاة الإسلام السياسي.

لقد جاء إليها الإمام الشافعي بفكره وبنى فيها مدرسته في أصول الفقه والعقيدة السمحة، واعتنقت مصر في فقه الأحوال الشخصية مذهب الإمام أبي حنيفة، وفي فقه العبادات مذهب الأمام مالك، واهتم شعبها بالصوفية ومدارسهم المختلفة، وتعانق على أرضها مرات عديدة الهلال مع الصليب انطلاقاً من مفهوم المواطنة الحقيقية وربما امتثالاً لا شعوريا لتعليمات النبي صلى الله عليه وسلم في القول المأثور عنه «إذا فتح الله عليكم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لي منهم صهراً ونسبا».

إن مصر الحقيقية هي استضافت السيدة مريم العذراء وابنها الوليد السيد المسيح عليه السلام عندما تم التآمر عليه من الطغاة المحتلين لأرض فلسطين. ومصر هي التي لجأ إليها إبراهيم أبو الأنبياء؛ ولجأ إليها يوسف طفلاً تآمر عليه إخوته فأصبح وزيراً للخزانة فيها؛ ولجأ إليها يعقوب وبنوه ليكونوا بني إسرائيل .

إن مصر الحديثة عرفت رفاعة رافع الطهطاوي الذي أدخل التنوير في القرن التاسع عشر، ومحمد عبده الذي أدخله في بداية القرن العشرين، وعلي عبد الرازق الذي أثبت أن الحكم أو الخلافة أو الإمامة السياسية ليست من أصول الإسلام وإنما هي تتعلق بالشعب وسيادته كمصدر للسلطات في كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، الذي صدر في العقد الثالث من القرن العشرين. ومصر طه حسين التي عرفت الفكر النقدي للتراث.

إن مصر هذه التي برز فيها سلامة موسى ولويس عوض ومكرم عبيد، كما برز فيها الشيخ أبو زهرة والشيخ محمد الغزالي. برز فيها طه حسين خريج السوربون كما برز فيها عباس العقاد ابن أسوان الذي لم يحصل على شهادة جامعية، ولكنه أصبح علماً من أعلام الفكر والأدب والفكر الديني والسياسة. إن مصر عبر تاريخها عرفت ما أصبح يطلق عليه في تاريخ الفكر بأنه «دع مئة زهرة تتفتح ومئة مدرسة فكرية تتبارى».

ومصر عبدالناصر رغم ديكتاتوريتها السياسية كانت تمس الحرية الفكرية ولذلك كان الفكر الاشتراكي في مجلة الطليعة ومجلة الكاتب وغيرهما يتجاور جنباً إلى جنب مع الفكر المحافظ في مجلة الفكر المعاصر التي ترأسها الفيلسوف زكي نجيب محمود.

أقول إن مصر الاعتدال لم تعرف سفك الدماء ولا قمع الحرية الفكرية أو الدينية الذي تشهده مصر ما بعد ثورة 25 يناير، في حين كان من المفترض حدوث العكس ولكن في ظل النفاق وضعف الرؤية وقلة البصيرة والتبصر ضاع أو تشوّش الصفاء الذهني والنقاء الثوري الذي عبر عنه النخبة من شباب 25 يناير في المرحلة الأولى لقيامها، والتي أطاحت برأس النظام وأعوانه الكبار الفاسدين ووضعت مجلس الوزراء السابق في سجن طره. إن مصر الحقيقية هي التي يتجاور فيها المسلمون والمسيحيون في القرى والمدن، في الزراعة والمنازل والوظائف. مصر المتسامحة في معظم فترات تاريخها تشهد اليوم حالة من التردي الفكري هو محصلة ثمرات مرة زرعها النظام السابق للأسف بأسلوب القمع والفساد والابتزاز، فانفجر البركان يقذف بحمم إلى حيث لا يدري فأصبح كالمدفع الذي يفتقر إلى آلة التصويب أو للبوصلة الصحيحة ومن ثم أصبح مدفعاً يصوب طلقاته نحو الأهداف الخاطئة مثل مؤسسات وأجهزة الدولة ومنشأتها التشريعية والعلمية.

إن كتابي عن «ثورة 25 يناير إطلالة إستراتيجية على الأبعاد الداخلية والخارجية»، والذي تم تدشينه في ندوة علمية في المجلس المصري للشئون الخارجية حضرها عدد من المثقفين والسياسيين والدبلوماسيين في سبتمبر 2011، هذه الثورة التي أيّدتها وما أزال أساندها بكل قوة مع احترامي للآراء التي عبّر عنها بعض المشاركين في الندوة آنذاك ولم يشاركونني الرأي، حيث ذهب بعض من ناقشوا الكتاب باعتبار الأحداث في 25 يناير لا ترقى إلى مستوى الثورة، أو أنها في أحسن الأحوال هي ثورة ناقصة أو مشوهة على حد قول البعض آنذاك.

إن مصر في مفترق طرق خطير في هذه اللحظة، وهي أمام محك رئيسي. والمأزق الراهن ساهمت فيه للأسف بدرجات متفاوتة مختلف القوى السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية ورجال الإعمال وأنصار النظام السابق والقضاء والعدالة البطيئة وأصحاب الدعوات والمطالب الفئوية والمثقفون الانتهازيون، وكذلك بعض السياسيين الذين يتطلعون للمناصب وجني الثمار الناضجة من وجهة نظرهم.

إن أول انتخابات تشريعية مصرية بعد ثورة 25 يناير أثبتت اختلاف أولويات الشعب عن أولويات النخبة، فصعود ما يسمى بالتيار الإسلامي نتيجة عوامل اقتصادية وثقافية ومفهوم الدين الكامن في نفس كل مصري وهزيمة التيارات الليبرالية واليسارية والأحزاب الجديدة بما في ذلك أولئك الذين دعوا لاعتصامات الفيس بوك والتويتر وغيرها واعتصموا في الميادين العامة ونسوا أن الاعتصام الصحيح هو وسط الفلاحين والمناطق المهمشة وبين صفوف الشعب الحقيقي وليس الافتراضي.

إن مصر التي نتحدث عنها ليست هي مصر التي نراها في الشهور الأخيرة وما يسودها من فوضى وتدهور اقتصادي وأمني واجتماعي وتراجع مستوى الحوار والقيم والسلوكيات. وعلى كل من ينتمي لمصر أو يدعي الثورة أو يدعي حبها أن يراجع نفسه ويعيد تقويم سلوكياته بما يتماشى مع السلوك الصحيح الذي عرفته مصر عبر الأجيال، والذي عاشته في بداية ثورة 25 يناير التي أشاد بها العالم بأسره، في حين أن العالم الآن يناشد الجميع بضبط النفس واحترام القانون واحترام حقوق الإنسان.

تبقي كلمة أخيرة أرسلها لمن حصلوا على الأصوات: لا تغتروا ولا تفرضوا أجندات دينية غير صحيحة لا تناسب العصر ولا تحقق آمال الشعب وطموحاته واحتياجاته. فالدين الصحيح والتشريع الصحيح ينبع ويتبع المصلحة العامة للشعب، وقد قال العلماء والفقهاء أينما تكون المصلحة يكون شرع الله، فلا يوجد حكم ديني لاهوتي في الإسلام، وإنّما هو اختيار الشعب، ولهذا اختار الشعب في صدر الإسلام أبا بكر وعمر وعثمان وعلي في منظومة وترتيب بديع، يجمع بين التقى والحكمة السياسية والسبق إلى الإسلام، وبين أجيال الشيوخ والشباب.

إن هذه الحكمة الإسلامية العميقة افتقر إليها المسلمون فيما بعد فتفرقوا إلى أكثر من سبعين شعبة متصارعة كل منها تعتقد أنها على صواب، وأياً كان من هو على صواب أو خطأ وخطر فذلك مرده إلى الله، ولكن الجميع من وجهة نظري على خطأ عظيم إذا خلطوا الدين مع السياسة أو اعتبروا تفسيرهم للنصوص الدينية هو التفسير الصحيح الوحيد، فالوحدانية لله جل وعلا وأعمال البشر كلها خاضعة للنقد والتقييم والخطأ والصواب، فهي أعمال بشرية ولذلك اختلف الفقهاء والعلماء سواء في الأمور الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بل واختلفت النظرة حتى في عهد الرسول الكريم عندما دخل عليه بعض الناس وهو جالس مع أصحابه وقال الداخل أن الناس أشرار، فقال له النبي صدقت. ثم جاء آخر وقال الناس أخيار فقال له النبي صدقت، فتعجب أصحاب النبي من هذه المفارقة فقال لهم الرسول الكريم كل إنسان يرى الآخرين في ضوء ما بداخله (القصة بتصرف في استخدام الكلمات مع الالتزام بالمعنى). وهذا تأكيد للمثل المشهور كل إناء بما فيه ينضح.

واختتم المقال بالإشارة إلى استطلاع الرأي الذي أجراه المعهد العربي الأميركي ومديره جيمس زغبي ونشرته الصحف ومنها «الشرق الأوسط» يوم 21 ديسمبر2011، ووجد الاستطلاع أن أولويات المصريين في نهاية عام 2011 هي نفس أولوياتهم في الاستطلاع الذي أجراه عام 2009 وهي أربع قضايا: العمالة والتعليم والرعاية الصحية والفساد. أي أن الأولويات هي قضايا اقتصادية واجتماعية، قضايا تمس حياة المواطن مباشرة. ولعل هذه رسالة واضحة من الشعب المصري لمن يكسب هذه الجولة الانتخابية ولمن يهزم فيها، وهي أن هذه القضايا هي المحك لأي تأييد في المستقبل وهذه هي الأولوية الحقيقية للشعب. وهذا يختلف عن أولويات النخبة السياسية والمثقفين دون إي إقلال من أولوياتهم أو أهميتهم ولكن عليهم النظر بواقعية في السياسة وليس بالمثالية التي يتحدثون عنها أحياناً، فالمثالية تعبر عن الأمل الذي هو سر البقاء والواقعية تعبر عن الحياة التي نعيشها فعلاً

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3395 - الجمعة 23 ديسمبر 2011م الموافق 28 محرم 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً