العدد 3464 - الخميس 01 مارس 2012م الموافق 08 ربيع الثاني 1433هـ

في ذكرى الوحدة المصرية - السورية

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

في 22 فبراير/ شباط 1958 وقع الرئيس السوري شكري القوتلي، والرئيس جمال عبدالناصر، ميثاق الوحدة بين البلدين، وأعلنا قيام الجمهورية العربية المتحدة. واختير عبدالناصر رئيسًا والقاهرة عاصمة للجمهورية الجديدة. وتم في مراحل لاحقة توحيد المجلسين البرلمانيين بمجلس واحد. وقد نقل هذا الهدف، فكرة الوحدة العربية، من الحلم إلى الأمر الواقع.

جاء تحقيق الوحدة، استجابة لحلم راود زعماء النهضة العربية المعاصرة، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. كما كان استجابة لصرخة مدوية انطلقت في المؤتمر العربي، الذي عقد بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث هتف الجميع مع الشاعر اليازجي: «تنبهوا واستفيقوا أيها العرب»... وكانت الوحدة رداً عملياً على تحديات إقليمية ودولية، استهدفت استقلال القطر العربي السوري، وعملت على إعادته مجدداً تحت الهيمنة الغربية.

ولذلك لن يكون ممكناً قراءة حدث الوحدة، من دون ربطه بالحرب الباردة، بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، وحلفائهما، التي اشتعل أوارها بقوة في تلك المرحلة. لقد كان المطلوب غربياً أن تكون دمشق في القلب من هذه الحرب، وقاعدة انطلاق للعدوان على المكتسبات التي حققتها الثورة في مصر، وفي المقدمة من تلك المكتسبات تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وتبني سياسة تحريرية مساندة لحركات وطنية في آسيا وإفريقيا، صبت لتحقيق حريتها واستقلالها.

كان أحد مظاهر الصراع المستعر، أثناء الحرب الباردة تشكل أحلاف فيما يعرف بالشرق الأوسط لمناهضة الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية. وقد برز من بين تلك الأحلاف مشروع أيزنهاور لملء الفراغ، الذي استبدل بعد تعثره بتشكيل حلف بغداد، الذي أريد منه

أن يشكل قوساً مزدوجاً، يبدأ من باكستان، مروراً بإيران الشاه، إلى العراق، الذي كان آنذاك تحت الحكم الهاشمي، وتركيا. وكانت سورية هي الحلقة المفقودة، التي يراد إخضاعها في هذا القوس. وقد تحول هذا الحلف لاحقاً بعد ثورة تموز 1958م، في العراق وخروجه منه، إلى حلف المعاهدة المركزية (السنتو).

وكان استكمال بناء هذا القوس، بشكل مزدوج سيؤدي وظيفتين مزدوجتين ومتداخلتين للغرب. فاتجاهه نحو الشمال، سيطوق الاتحاد السوفياتي في خاصرته الجنوبية، من الشرق إلى الغرب. أما اتجاه القوس الآخر، فموجّه بشكل مباشر لحركة التحرر العربية، وللقيادة المصرية. ولذلك مثل تحقيق الوحدة انقلاباً هائلاً على مشروع الإخضاع الاستعماري، ونقل سورية من بلد يراد له أن يلعب دوراً في قمع حركة التحرر العربي، إلى قلعة من القلاع العصية لهذه الحركة.

ولذلك يأتي عبور الحشود الضخمة الحدود إلى سورية من لبنان والعراق والأردن احتفاء بزيارة الزعيم والقائد، للقطر الشمالي في سياق موضوعي وتاريخي صحيح، وتعبيراً عن وعي عميق لأهمية هذا الحدث. فقد أنقذ تحقيق الوحدة سورية من الوقوع تحت براثن الاحتلال مجدداً، ونفح روح التمرد والوثبة، في الشعب العربي.

لكن موسم الفرح لم يستمر طويلاً، فقد تواصلت التحديات ومحاولات قهر إرادة الأمة. ولأن التجربة الوحدوية لم تستكمل مقومات صمودها، وواجهت ما هو أقوى بكثير من قدراتها، فقد انتكست هذه الوحدة بعد أقل من أربع سنوات على قيامها.

بالتأكيد كانت هناك مؤامرات ودسائس وهجوم محموم على تلك التجربة، وقد تم الإفصاح عن كثير منها، من قبل الدوائر التي شاركت في الانقضاض على تجربة الوحدة، في صيغة وثائق ومذكرات. لكن المؤكد أيضاً أن منطق الأشياء يقتضي ألا يحمل الوحدويون الخصم مسئولية انتكاساتهم وهزائمهم، ذلك أن من غير البديهي تصور إمكانية تعامل الأعداء والخصوم مع تجربة واعدة بهذا الحجم.

إن قراءة هذه التجربة بعد أكثر من خمسة عقود، لا ينبغي أن تكون ارتجاعية، لأن ذلك يفترض ادعاء الخبرة بأثر رجعي. والأصعب في هذه القراءة أنها تأخذ مكانها، في زمن لم تعد فيه بوابات الوحدة مفتوحة على مصاريعها. فليس هناك على أرض الواقع ما يدعمها من انتصارات، بحيث تكون فكرة الوحدة جزءاً وامتداداً لتلك الانتصارات، وإحدى الحلقات البارزة في سلسلتها.

لقد تكفلت لحظة النهوض ومواجهة المحتل، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بإفشال كل المحاولات لفرض هويات جزئية، أو ما قبل تاريخية في الأمة، وعمقت الانتماء نحو الهوية الجامعة. وتحت الضربات الموجعة لحركات التحرر الوطني، فشلت مشاريع التفتيت، وتداعت أحلاف ومحاولات مستعرة لفرض كيانات على أسس إقليمية ومناطقية ودينية وطائفية. وفي معمعان الكفاح، تحول الصراع في المنطقة إلى مواجهة حضارية بأبعاد اجتماعية متقدمة. أصبح الصراع بين التخلف ومشروع النهضة، وبين التجزئة والوحدة، وبين التسليم بالمشروع الصهيوني والتصدي له. وكان اتجاه التيار يصب بقوة في مصلحة الحلم.

الآن تباعدت المسافات، وأصبح مشروع الوحدة في نظر عدد كبير من المثقفين إبحاراً من دون شراع إلى تاريخ غابر، وتعبيراً عن دوغما لا تستقيم مع أوضاع العصر وتجلياته. وقد كمن التحريض ضد المشروع أيضاً في إعلانات مدفوعة الثمن، باتجاه معاكس مالاً ودماً وقهراً، وغربة ونفياً وانتهاكاً للأعراض في سجون الاحتلال، ترفع فوق الساريات الضخمة، وعبر القنوات الفضائية، التي تنافس الأرانب في سرعة توالدها. أصبح من المتعذر على دعاة الوحدة والنهضة أن يجدوا مكاناً مناسباً لمقولاتهم في عصر العولمة وحقوق الإنسان، والشرق الأوسط الكبير أو الجديد. وإشاعة نمط غير مسبوق من الاستهلاك البذيء لكل شيء.

هكذا إذن تصبح القراءة عدمية هي الأخرى، كما هو الفكر عدمي، إن لم تتوجه إلى المستقبل، بالزج بالقوى الحية في الأمة، لاستعادة الحلم، وهذا ما يجعل المهمة أصعب بكثير، ذلك لأن الحلم قبل تجربة الوحدة، كان أهم عوامل التحريض على قيامها، أما الآن فلا مناص من إنجاز مهمتين شاقتين:

المهمة الأولى هي استعادة الحلم، وهي مشروطة باستعادة الوعي، والمهمة الأخرى، هي وجود الرؤية العملية، للانتقال من الحلم إلى الواقع، بتجسيد تجارب جديدة لا تستمد قوتها فقط، من القدرة على قراءة الواقع وتهجي مفرداته، والانطلاق لبناء تجارب حية جديدة، بل أيضاً من قراءة وتقييم تجربة الماضي، في عناوينه واتجاهاته وممارساته، وكشف طلاسمه. ذلك وحده هو السبيل، لاستعادة الثقة بمشروع الوحدة، ونقلها من فكرة رومانسية، إلى رؤية جديدة تنطلق من مفهوم الضرورة الحضارية، لتتلامس مع مختلف القراءات الأخرى في اتجاه مشروع النهضة، العقل والروح، وتسهم في صناعة الغد الأفضل

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 3464 - الخميس 01 مارس 2012م الموافق 08 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً