العدد 3937 - الإثنين 17 يونيو 2013م الموافق 08 شعبان 1434هـ

سجن «تزممارت» الرهيب... العبرات والعبرة

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

كان عليّ أن أتحلى بقدرٍ من الشجاعة والاحتمال على قسوة المشاهد وقوة التصوير الذي نجح في تجسيده أحد من قُدّر لهم أن ينجوا من جحيم معتقل «تزممارات» الرهيب، المدفون سراً في أطراف الصحراء الشرقية المغربية. ففي روايته «تزممارت: الزنزانة رقم 10» الصادرة حديثاً (2013) تحدّث الملازم أحمد المرزوقي عن تجربة الاعتقال المروّعة، وفي 446 صفحة يأخذك هذا «السجين» المرشح للموت في أية لحظة إلى أقبية الظلام الأبدي في تزممارت، حيث الجوع والعقارب والأفاعي و58 معتقلاً مغربياً يصارعون الإهمال بأسمال بالية ولحى طويلة وشعور كثة، نجى منهم 28 محظوظاً وهم نصف أحياء، فيما عانقت المنية 32 ضحية واحتفظت أحشاء رمال المعتقل الصحراوية بجثثهم إلى الأبد، كتذكار بشع لظلم الإنسان لأخيه.

شهد سجن تزممارت، المعتقل السري السابق، نشاطاً مكثفاً خلال ما سمي بـ «سنوات الرصاص»، وكان يتميّز بالسرية الكبيرة والتعذيب. فتح هذا السجن في شهر أغسطس/آب 1973 وأغلق بتاريخ 15 سبتمبر/أيلول 1991، واستقبل في الأثناء العسكريين ممن شاركوا في المحاولتين الانقلابيتين: الصخيرات (1971) وانقلاب أوفقير (1972). ثم معارضي النظام الملكي من أصحاب الرأي من يساريين خصوصاً. وقد قضى سجناؤه سبعة آلاف وأربعمئة وثلاثة أيام في تلك الحفرة المظلمة، بينما آلة الموت الفتّاكة تشحذ سكاكينها البتارة استعداداً لقطع أعناقهم في أية لحظة ليودعوا بعدها في حفر الجير. لكنها في صباح الأحد 15 سبتمبر 1991 يأتيهم خبر الإفراج، لتكتب لهم حياة جديدة. وفصل جديد يعيشه المغرب في مصالحة وطنية وقطيعة تامة مع الماضي.

لم يكن بالطبع العمل الأدبي لأحمد المرزوقي هو العمل الوحيد، فقد أنجز الأديب العالمي المغربي الطاهر بن جلون في عمله الذائع «تلك العتمة الباهرة»، التي يسرد فيها مذكرات السجين عزيز بنبين، وقد صدرت عام 2001 وقام بترجمتها عن الفرنسية بسام حجار وصدرت عن دار الساقي.

وعلى رغم أن عدداً من الذين بقوا على قيد الحياة ممن اعتقلوا في انقلاب الجنرال «محمد أوفقير» وكتب لهم الخروج العام 1991، استطاعوا إصدار سيرة اعتقالهم في كتب لاقت رواجاً كبيراً، خصوصاً سيرتي المعتقلين «أحمد المرزوقي» و»محمد الرايس»، وكذلك مذكرات كابازال سجناء تازمامارت لصلاح حشاد، إلا أن رواية «الطاهر بن جلون» تبقى الأكثر مدعاةً للهجوم، فيرد «أحمد المرزوقي» على أحداثها قائلاً: «إن الطاهر بن جلون يسعى دائماً للكتابة على أريكة مريحة، فهو كاتب خمائلي يكتب بعيداً من منغصات السلطة، وإن كان لا يكتب تحت أوامرها، طبعاً، لكنه في المقابل يكتب وفق موضة الاهتمامات الغربية، وتحت تأثير المواضيع الساخنة التي يضعها الإعلام الأوروبي في واجهة اهتماماته».

تجيء رواية المرزوقي التي تعد «سيرة روائية» لتقدّم لنا قصة واقعية، يستلهمها الملازم أحمد، أحد من وضعتهم سخرية الأقدار دون قصد منهم على ما تجهد الرواية في سرد تفاصيله، قاموا بانقلاب على الحكم الملكي في المغرب في العام 1971، وحُكم عليه مع 55 آخرين بالسجن لمدة خمس سنوات، لكنه يقضي عقوبة سجنه مضاعفة ثلاث مرات، ولا يكتب له الخروج إلا في العام 1991، مع 18 فرداً فقط ممن اعتقلوا في العام 1971، إذ قضى الباقون وماتوا من جراء الأوضاع السيئة التي واجهوها في سجن «تزممارت» الرهيب.

يستطيع الأدب أن يصوّر معاناة الشعوب والأفراد، لكن هذا الأدب الممزوج بأديم المعاناة الإنسانية والمغموس بآهات المعذبين، لا يمكن له أن ينتعش إلا في أجواء منسلخة عن ظروف المعاناة والقهر، أجواء تعلن قطيعتها التامة مع الماضي الأليم، وإلا فإن الشهادات الحية لضحايا الأزمات الطاحنة ستبقى غير مكتلمة بالضرورة وربما تموت إلى الأبد إن لم تسمح الظروف بتسجيلها.

ما يعنينا هنا في الموضوع، تجلياته السياسية، فميزة بلد كالمغرب أنه بدأ بتجربة رائدة في المصالحة الوطنية أثبتت إلى الآن أنها من أنجح التجارب العربية في مجال طيّ صفحة الماضي، فسجن تزممارت هُدم ليسدل الستار عن حقبة سوداء كانت بكل المقاييس داميةً حد البشاعة. مرحلة عُرفت في الإعلام السياسي بسنوات الرصاص، ومنذ تأسيسها في 7 يناير 2004 أصبحت «هيئة الإنصاف والمصالحة» أداةً فعالةً للبحث عن الحقيقة في ملفات انتهاكات حقوق الإنسان وإنصاف الضحايا من خلال جبر الضرر ورد الاعتبار لهم. وتعتبر «هيئة الإنصاف والمصالحة» جهازاً ذا اختصاصات غير قضائية في مجال تسوية ملفات ماضي الانتهاكات لحقوق الإنسان بحيث تقتصر مهمتها على البحث على الحقيقة وتقييم الضرر.

ويتم ذلك عن طريق برنامج جلسات الاستماع التي تنظمها الهيئة في مختلف مدن المملكة، تعطي فيها فرصة للأشخاص ضحايا الانتهاكات للتعبير بصفة شخصية ومباشرة على شاشة التلفزة وأمواج الإذاعة الوطنية المغربية عمّا تعرّضوا له من تنكيل وتعذيب وإهدار للكرامة، وما تعرّض له ذووهم من أضرار جسيمة مادية ومعنوية... وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 3937 - الإثنين 17 يونيو 2013م الموافق 08 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 8:46 ص

      جميل جدا

      جميل حقاً أن يقوم الروائي باطلاق اسقاطاته السياسية في قالب أدبي يسرد حقبة تاريخية مهمة.. لعل الآخرون يدركون أن الأيام دول وأن للباطل جولة وللحق دولة
      أخوك
      عبدالرسول درويش

    • زائر 6 زائر 5 | 9:52 ص

      الادب الهادف

      هذا ما اسميه ياصديقي بالادب الهادف.. الادب هو الابداع الذي ينقل المعاناة الانسانية الى مستوى الفن المبدع

    • زائر 3 | 1:08 ص

      ليش

      دائما وبالاخص فى الفترة الاخيرة عن تجارب المغرب هل ستسقط التجربة علينا مفلا والا لويش الترويج مجرد فكرة هل؟؟

    • زائر 2 | 12:41 ص

      شكرا لك أخي الكاتب

      نعم نحن في البحرين ينقصنا هذا النوع من اللجنة للمصالحة الوطنية تحمل شخصيات تتسم بالمصداقية وبعيداً عن العصبية والطائفية لتتم المصالحة الوطنية ويقدم كل من قام بالتعذيب أو انتهاك حقوق الانسان للعدالة لينعم المواطن البحريني في جو يسوده المحبه والاحترام للآخر.

    • زائر 1 | 12:33 ص

      شكرا لك أخي الكاتب

      نعم نحن في البحرين ينقصنا هذا النوع من اللجنة للمصالحة الوطنية تعحمل شخصيات تتسم بالمصداقية وبعيداً عن العصبية والطافية لتتم المصالحة الوطنية ويقدم كل من قام بالتعذيب أو انتهاك حقوق الانسان لينعم المواطن البحريني في جو يسوده المحبه والاحترام للآخر.

    • زائر 4 زائر 1 | 3:00 ص

      اتفق معك

      اتفق معك بكل تأكيد

اقرأ ايضاً