العدد 4119 - الإثنين 16 ديسمبر 2013م الموافق 13 صفر 1435هـ

تونس: بارقة أمل جديد

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

منذ اغتيال الشهيد محمد البراهميّ، ومحاولة «الإرهاب» سرقة فرحة العيد من التونسيين ، كففت قلمي عن الكتابة في شأن بلدي تونس؛ ذلك أنّ شيئا من الحزن يلفّه بعض من اليأس بدأ يسري نفسي سريان السخط في نفوس غالبية الشعب التونسي على تدهور الوضع الأمني؛ إذْ لاشيء يعدل عند التونسيين أمنهم وأمن أبنائهم ولا شيء أشدّ إزعاجا لهم من هذا الكائن الغريب المسمّى « إرهابا» مهما كان مأتاه.

منذ ذلك الحين، أواخر يوليو 2013، دخلت البلاد في دوّامة سياسيّة خطيرة فَقَدَ معها عامّة الناس، أو كادوا، ثقتهم في النخبة السياسية التي بدا وكأنّها تناور من أجل مصلحتها الحزبية لا من أجل مصلحة البلاد والعباد الذين علّقوا آمالا عريضة عليها حين انتخبوها، بل وصل الأمر ببعض التونسيين، اليائسين من تلك الطبقة السياسية، إلى التعبير عن حنينهم إلى زمن ولّى وانقضى دون رجعة...حتّى كانت بارقة الأمل مساء السبت الماضي تاريخ الإعلان عن اسم «المهدي جمعة» رئيسا جديدا لحكومة كفاءات وطنية تضمن للبلاد إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في كنف الحياد والشفافيّة.

لقد عاشت تونس في النصف الثاني من العام 2013م أخطر أزمة سياسية بعد الثورة؛ فلقد نادت أطياف عريضة من المعارضة بإسقاط كلّ المؤسسات المنتخبة وخاصّة المجلس الوطنيّ التأسيسيّ والحكومة وانسحب عدد غير قليل من المجلس حتّى تعطلت أعماله. وفي الأثناء قاد النواب المنسحبون حملة إعلامية ومظاهرات شعبية للضغط على الحكومة والمجلس أشهرها ما عُرِف باعتصام الرحيل في باردو أمام مقرّ المجلس الوطني التأسيسيّ، بل ودعا بعض الفوضويين الجيش إلى الاضطلاع بدور مشابه لما جرى في مصر. في المقابل استمات العديد من النواب وخاصة من الترويكا الحاكمة في الدفاع عن المجلس الوطنيّ التأسيسي والحكومة مع إبداء بعض الليونة والاستعداد لبعض التنازلات المعقولة.

في تلك اللحظة الفارقة كان لا بد من تدخّل الاتحاد العام التونسي للشغل تدخلا عاقلا وحكيما، وقد اهتدى فعلا إلى مبادرة يلعب فيها دور الوسيط بمعيّة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين ومنظمة الأعراف. وتقدم هذا الرباعي بخارطة طريق، ودخل الفرقاء معها في حوار وطنيّ مرير أظهر معه الاتحاد العام التونسي للشغل والرباعي عموما حنكة سياسية، ليست غريبة عنهم، فقد جددت هذه المنظمات الوطنية تمسكها بالمجلس الوطني التأسيسيّ وقطعت بذلك الطريق أمام الدعوات الفوضوية والشعارات غير المحسوبة التي قد تأخذ البلاد نحو الجهول أو نحو السيناريو المصري. لكن من جهة أخرى، ساند اتحاد الشغل والمنظمات الراعية للحوار مطلب المعارضة وشرط النواب المنسحبين للعودة إلى المجلس التأسيسي وهو استقالة الحكومة الحالية، واستطاع الاتحاد الضغط عليها حتّى أعلنت استعدادها للاستقالة لكن مع تلازم مسارات خارطة الطريق ( المسار التأسيسيّ: إكمال الدستور، والانتخابيّ: إحداث هيئة عليا مستقلة للانتخابات، والحكوميّ الاتفاق حول رئيس حكومة وتشكيل أعضائها وهو ما بدأ يتحقق) وبدأ الحوار الوطنيّ ... وكانت أولى ثمراته، ولو بعد لأيٍ، اختيار رئيس جديد للحكومة هو المهدي جمعة، وأدرك الجميع أنّ المعارضة دون قواعد الاتحاد ومساندته لا تستطيع تحريك الشارع ضد الحكومة، كما أيقنت الحكومة أنّ حلحلة الأزمة غير وارد دون الجلوس إلى طاولة الحوار مع الاتحاد العام التونسيّ للشغل.

وقد رأى البعض في اختيار اسم المهدي جمعة رئيسا للحكومة المرتقبة انتصارا لإرادة التوافق داخل المجتمع السياسيّ التونسيّ، بل وانتصارا لثورة قادها الشباب بالتوافق على اسم رئيس حكومة يعتبر بعدُ شابا (مواليد 1962) مقارنة بأسماء أخرى كانت مطروحة لترؤس الحكومة (أحمد المستيري 88 عاماً أو مصطفى الفيلالي 92 عاماً). كما يمكن اعتباره انتصاراً لحكومة كفاءات وطنيّة تكنوقراطيّة؛ فالرجل نكرة في عالم السياسة لا يعرف له نضال ولا شُهِد له بانتماء، وإنما هو كفاءة تونسية نادرة ومرموقة وصل إلى رتبة مدير عام في مجمع دولي يعد من أكبر المؤسسات في العالم.

ولئن استبشر الرباعي الراعي للحوار بهذا التوافق حتى وإن لم يصل إلى درجة الإجماع، فإنّ المعارضة المتطرّفة شرعت في إعداد حملة تشكيك في نزاهته قبل تشكيل حكومته لكونه وزير الصناعة الحاليّ في حكومة علي العريض، ومن ثمّة فإنّ ولاءه سيبقى في نظرهم للنهضة، في حين اعتبرت حركة النهضة في هذا الاختيار انتصارا لإرادة التونسيّين في التوافق وأظهرت الحركة حنكة سياسية قد تُرجِع لها بعض ما فقدته من إشعاع في الأشهر الأخيرة، أمّا المعارضة المعتدلة فقد أعلنت استعدادها لمساندة رئيس الحكومة الجديد بشرط التزامه بخارطة الطريق، ومن ثمّة تتحمّل المعارضة المتشددة كل المسؤولية في حال افتعال أي عقبة أخرى أمام التقدم في خارطة الطريق.

ولعلّ من أبرز ضمانات نجاح هذه الحكومة الجديدة، كما عبّر عن ذلك حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، ضرورة تشكيل فريق حكومي بعيدا عن الأحزاب والانكباب على العمل من أجل ضمان انتخابات نزيهة وشفافة، ذلك أنّ التصويت لا يعني منح صكّ على بياض وإذا لم يحافظ رئيس الحكومة الجديد على بنود خارطة الطريق ولم يشكل فريقا يتسم بالحيادية فإنّ الفشل سوف يكون حليفه وحليف خارطة الطريق.

إنّ تونس اليوم أمام منعطف تاريخيّ شديد الخطورة؛ إذْ لم يعد يخفى على أحد تدهور الوضع الاقتصاديّ وحساسيّة الوضع الأمنيّ وأثرهما على الاستقرار والسلم الاجتماعيّين، كما لا يخفى على أحد تطلّع العالم بأسره إلى نجاح النموذج التونسيّ في التحوّل الديمقراطيّ بأخفّ الأضرار وهو ما يأمله الجميع.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4119 - الإثنين 16 ديسمبر 2013م الموافق 13 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 5:02 م

      ضمانات نجاح هذه الحكومة الجديدة

      فريق حكومي بعيدا عن الأحزاب والانكباب على العمل من أجل ضمان انتخابات نزيهة وشفافة

    • زائر 6 | 12:44 م

      حقّ فيه ديمقراطية

      صراحة التجربة التونسية فيها عناصر النجاح أكثر من بوادر الفشل

    • زائر 5 | 10:15 ص

      مبروك لتونس

      مبروك لتونس في ذكرى ثورتها المجيدة الثالثة
      ونرجو أن تكلل الحكومة الجديدة بالنجاح

    • زائر 4 | 6:31 ص

      الهند وتونس خضرواتان لكن مصر يقال قيل أن أرضها ذهب!

      تونسيات كما هنديات لكن يقال هنا ليس عبثاً ولا ولعاً لكن تعباً! فليس من العبث أو من العبط أن يقال أرض مصر ذهب ينما تونس خضراء! فقد قيل في مصر من أمصر الدنيا بنها ام الدنيا لكن سأل جهال ليش؟ قال قرعويه بأن عمر إبن العاص قال أرضها ذهب لكن ..

    • زائر 3 | 4:45 ص

      نعم هذا شرط ضروري للنجاح

      ضرورة تشكيل فريق حكومي بعيدا عن الأحزاب والانكباب على العمل من أجل ضمان انتخابات نزيهة وشفافة، ذلك أنّ التصويت لا يعني منح صكّ على بياض وإذا لم يحافظ رئيس الحكومة الجديد على بنود خارطة الطريق ولم يشكل فريقا يتسم بالحيادية فإنّ الفشل سوف يكون حليفه وحليف خارطة الطريق.

    • زائر 2 | 3:14 ص

      هذه حقيقة

      إنّ تونس اليوم أمام منعطف تاريخيّ شديد الخطورة؛ إذْ لم يعد يخفى على أحد تدهور الوضع الاقتصاديّ وحساسيّة الوضع الأمنيّ وأثرهما على الاستقرار والسلم الاجتماعيّين، كما لا يخفى على أحد تطلّع العالم بأسره إلى نجاح النموذج التونسيّ في التحوّل الديمقراطيّ بأخفّ الأضرار وهو ما يأمله الجميع.

    • زائر 1 | 3:11 ص

      نرجو له التوفيق

      حقا لا بد أن تنجح التجربة التونسية حتى تكون عزاء لنا فيما نحن مبتلون به

اقرأ ايضاً